لا يخفى على أحد أن السياسات العامة التي تسير بها الدول والأمم محكومة بنظريات اقتصادية قوية ، لها الكلمة الأولى و الأخيرة في مصير الشعوب . وقد عرف العالم الاشتراكية والليبرالية وصراع المصالح بين الشرق والغرب والنظرية الثالثة عند القذافي . ودرس أغلبنا فلسفة افلاطون والمدينة الفاضلة في عالم المثل عنده . لكن لم يسمع احد منا عن نظرية الطوابير ، فما هي إذن ؟
إن نظرية الطوابير نظام سياسي اقتصادي واجتماعي معاصر تطبقه جمهورية الطوابير فقط ، وهو نظام يسير الشعب عن طريق صفوف طويلة أمام المؤسسات العمومية والمحال التجارية حتى يرهق الجميع وينسيه الشأن العام ، فهو إذن :
- طابور أمام حاكم المقاطعة للحصول على حبات قمح للأنعام أو الأمعاء لا تسمن ولا تغني من جوع ، فيها من المذلة والإهانة ما جعل الكثير يتعفف عنها تأسيا بقول الشاعر :
ولقد أبيت على الطوى وأظله ********** حتى أنال به كريم المأكل .
- طابور أمام شاحنة فيها ما عافه الأوربيون واليابانيون والصينيون من أسماك يجود بها سيد القصر على شعب ألف الأنفة والترفع عن فُتاة الحَب .
- طابور أمام دكاكين التضامن تقتل الكرامة الإنسانية وتعلم المذلة والإهانة .
- طابور أمام مكاتب الإحصاء دون احترام للإنسان ، يبدأ بيوم أو يومين قبل أن يدخل المرء المكتب وله إن أراد قضاء حاجة إنسانية أن يضع مكانه صخرة أو خشبة مُوَسّمة بعلامته العائلية مما يذكي النعرات القبلية في بعض الأحيان .
- طابور أمام الحالات المستعجلة لبعض الإسعافات الأولية دون وجود طبيب مداوم في الخدمة .
- طابور أمام الإسعافات الغذائية التي ننتظرها من حين لآخر من شركائنا في التنمية بعد أن تم تصنيف البلاد ضمن البلدان المتضررة من الجفاف في المنطقة .
- طابور من المدرسين في تجمع مهيب لصلاة الجنازة على التعليم يؤمها سيد القصر ، قبل انتهاء مأموريته الأولى . هذا التعليم الذي عانى مرضا عضالا لمدة طويلة دون أن تقدم له حقنة علاجية فإذا به يلفظ أنفاسه الأخيرة في أقسام دراسية متهالكة يردد :
العلم يرفع بيتا لا عماد له ********* والجهل يهدم بيت العز والشرف
- طابور أمام مكاتب التصويت لانتخاب سيد القصر أو نائب للحزب الحاكم بإملاء من سيد القبيلة وفارسها المغوار يوم الوليمة أو المحاصصة .
- طابور أمام مؤسسة عمومية للتشغيل تسأل عن العائلة والقبيلة قبل الشهادة والكفاءة .
- طابور من المصفقين والمزمرين والمطبلين لنجاحات وإخفاقات سياسة السيد الرئيس في كل خطوة يخطوها إلى الأمام أو إلى الوراء من رجال الفكر والسياسة والاقتصاد ، وهذا الطابور هو الأهم وهو الركيزة الأساسية التي يقوم عليها النظام .
هذه باختصار صورة مقتضبة عن واقع نظام سياسي مقام على حوزة ترابية تسمت في مرحلة معينة من التاريخ بالأرض السائبة حينما استعصى حكمها والسيطرة على ساكنيها ، وبأرض الرجال حينما حسب لأهلها ألف حساب في الرجولة والبطولة والشهامة والقدرة على تجاوز الصعاب ، وببلاد شنقيط حينما كانت مركزا حضاريا وثقافيا في الصحراء الكبرى ضاهى المجامع العلمية العتيقة كالأزهر والزيتونة .
لكنني اليوم وفي القرن الواحد والعشرين لا زلت أتساءل : من أين استوحى قائدنا نظرية الطوابير ؟ فأنا لا أعتقد أنها من أفكار هانري كيسنجر ولا من فلسفات فوكوياما ،
بل حتى ليست فكرة محلية ، فليس الوزير الأول صاحبها ولا رئيس البرلمان منظرها لأن نظام الحكم فيها يعتمد على رئيس بلا حكومة وبرلمان بلا صلاحيات ونخبة من حاشية الرئيس يسيطر عليها الطمع والجشع تسبح باسمه وتصفق بالأيدي والأرجل وكل الجوارح في الليل والنهار . لكن ما أخشاه أن تكون النظرية مستوردة من القرن الإفريقي أو أن تنتهي بنا إلى ما فيه إخوتنا في الصومال .
وقبل أن نضع أنفسنا في اختبار كهذا أقترح على سيادة الرئيس أن يعمل على :
* دعم المواد الغذائية الأساسية كالأرز والقمح والسكر والزيت ... أو إعفائها من الضرائب ليتسنى للمواطن -أي مواطن- شراء حاجياته من السوق بكرامة دون الانتظار في طابور كثيرا ما أدى إلى مشاحنات ومشاجرات لا معنى لها .
* التوجه إلى إصلاح حقيقي للتعليم لانتشاله من الضياع باعتباره اللبنة الأساسية لتقدم الشعوب وتطورها وذلك بالاستماع إلى هموم المدرس داخل الفصل لا إلى وزير الدولة .
* إصلاح كل قطاعات الدولة وتقريب الخدمات من المواطنين بصفة حقيقية دون الدعاية السياسية : كافتتاح مراكز جديدة للإحصاء في كل بلدية على سبيل المثال لاالحصر .
عندئذ سأكون بصدد انتقاد نظام سياسي له أن يتفاخر بانجازات تتحقق على أرض الواقع .كأي ناقد موضوعي يعمل على تثمين الإيجابيات وإظهار السلبيات لإيجاد حلول مناسبة لها .
الحسن ولد محمد الشيخ