ما بين يوم الاثنين 12 مارس 2012 ويوم الثلاثاء 13 مارس 2012، وما بين نواكشوط ونواذيبو أتضح مدى ممارسة الطرفين لسياسة شد الحبل. فالمعارضة المقاطعة للحوار بذلت جهدا إضافيا واستطاعت أن تحشد الكثير من مناضليها، ضمن مسيرة قوية منظمة وهادئة، انتهت بمهرجان خطابي كان اهم مطالبه رحيل ولد عبد العزيز عن دفة الحكم.
بينما تحركت الموالاة وسائر جهودها، إبان زيارة ولد عبد العزيز لانواذيبو، فاستطاعت أن تنظم مهرجانا حاشدا في العاصمة الإقتصادية، في أحد الأحياء الشعبية.
ومن غير الموضوعي أن لا نذكر استغلال وسائل الدولة، من قبل نظام ولد عبد العزيز، سواء لمحاولة إفشال مسيرة المعارضة، أو التمكن من حشد الجماهير، التي حضرت مهرجان انواذيبو.
لقد قسمت بعض المواد الغذائية، وخصوصا السمك الرديئ، متزامنا مع مسيرة المعارضة التي تكللت في النهاية بنجاح ظاهر جلي.
كما استغلت سائر المقدرات المعنوية والمادية من أجل إحضار الناس هناك الى جانب ولد عبد العزيز الذي بدا مرتبكا كأنه مطارد.
هذا الجو المشحون، له عدة دلالات:
أولاها: أن الساحة السياسية في البلد بدأت تتحرك بقوة، متأثرة بأزمتها الداخلية ومحيطها الإقليمي، خصوصا أحداث الربيع العربي في المنطقة العربية بشكل عام، والمغرب العربي بشكل خاص.
ثانيا : ان هذا الوضع المتصاعد، المتسم بالمنافسة وشد الحبل، غير قابل للذوبان والخمول في وقت قريب، من دون تجليات وإفرازات أخرى.
ومن جهة أخرى في ظل إصرار المعارضة على مطلب تنحي ولد عبد العزيز عن السلطة، وإصراره هو في المقابل على البقاء لوقت طويل، يبدو الوضع السياسي والأمني، مرشحا داخليا، لتفجر خطير، قد يحدث لأبسط الأسباب، لغياب نقطة الالتقاء والتفاهم، ولو نسبيا.
وفي الحقيقة القبول ببقاء ولد عبد العزيز في السلطة، بعيد عن الوطنية. فهو صاحب انقلابين، وهو أثرى رئيس حكم البلاد، وهو صانع طبقة من المستفيدين والمتنفذين، من محيطه الخاص، على حساب الأغلبية المسحوقة المقهورة، وهو أحد عناصر المؤسسة العسكرية، التي لم يعد من المنطقي أن تستمر في الحكم.
وفي عهده ازداد الفقر وازدادت حدة الجفاف وازدادت وتيرة التذمر والاحباط. وشعاراته الكثيرة المتنوعة، قد لا تكفي إطلاقا لحلحلة الوضع الموشك على التفجر. والمعارضة المقاطعة للحوار، رغم فشلها في خلق التناوب الداخلي على مستوى أحزابها، مازالت تتمتع بمصداقية معتبرة لمحاولة تغيير الحال نحو أفق أفضل.
لانها باختصار لا تزال صابرة على مسار النضال السلمي المتوازن، ورفع الصوت جوهريا بمطالب الشعب العديدة. إبعاد العسكر عن دفة الحكم مع احترامهم وتقديرهم. إقامة نظام سياسي تعددي في ظل دولة يحكمها القانون، المنبثق أصلا من الشريعة الاسلامية وفق ما ينص عليه الدستور.
السعي إلى إتاحة الفرصة لهذا الشعب المحروم، كي يستفيد من ثرواته الطائلة ويسير بخطى ممنهجة ثابتة على طريق التنمية الشاملة.
تناقض بين جبهتين يدفع إلى التأمل الطويل.
فما هي يا ترى ملامح المرحلة القادمة؟
إن قبول المعارضة بخدعة حوار آخر، ضعف وإيغال في الضعف السياسي، وهو مستبعد، وإن حصل فقد يجر المعارضة الحالية إلى قدر كبير من الرفض في أوساط مريديها ونخبها وأتباعها. ولد عبد العزيز لن يقبل بسهولة التنازل عن كرسي الحكم. إنقلاب جديد، قد لا يأتي بالديمقراطية والحلول المنشودة، وإنما شعارات جديدة، ومدة أخرى لضابط آخر، ومهزلة عسكرية متجددة، لان من يضحي من أجل السلطة، لا يقدم على ذلك غالبا، إلا لقطف ثمار لشخصه وفريقه الانقلابي على حساب الشعب ومطالبه المعروفة المشروعة.
وأما العنف والصدام -وهو المتوقع الآن للأسف-، فليس حلا إطلاقا، وإنما قد يحل عقدة الوحدة الوطنية الهشة، ويجر الوطن إلى نفق مظلم.
ولأن المعارضة لا تملك من الوسائل ما يكفي لإرغام الحاكم المستبد، على الرحيل، فقد يتيح ذلك وقتا أطول، لسياسة شد الحبل بين الطرفين المتصارعين.
سياسة غير مأمونة العواقب، فهي إما مدمرة أو معوقة على الأقل عن جهود التنمية والسير شبه الطبيعي للدولة.
فالجامعة تعيش هذه السنة سنة شبه بيضاء، والوسط الطلابي يعيش منذ سنوات حالة غليان لا تخلو من تأثير الجانب السياسي، رغم مشروعية المطالب الطلابية المعلنة.
والانسداد السياسي في البلد، في أعلى درجاته، منذ وصول عزيز إلى السلطة في يوليو 2009 بعد انتخابات مزورة بامتياز، مازال لغزها غامضا حتى اليوم. وقد لا يرويه بدقة مقنعة إلا ولد عبد العزيز يوم يشاء.
لاشك أن التصرفات الشاذة في هذا الوطن، قد تكفي فجأة –لرعونتها- لإسقاط غير محسوب لنظام ولد عبد العزيز، لكن الأزمة السياسية مرشحة للاستمرار وقتا أطول فعلا.
مثلا استلام عزيز لشيك قطري بقيمة عشرة مليون دولار، بدل تقديمه لإحدى الجهات التقليدية لاستلام الهبات: وزارة الشؤون الاقتصادية والتنمية او وزارة المالية، ليذهب بعدها إلى الخزانة العامة أو البنك المركزي، دليل على سطوة هذا النظام على المال العمومي، وشراهته في لمس أموال هذا الشعب مباشرة، والتصرف فيها بطلاقة، قبل رأي أية جهة مالية أو إدارية أخرى، مختصة في مثل هذه الأمور.
هذه الواقعة على سبيل المثال لا الحصر، باستغلالها الكامل والمهني من قبل الجهات البرلمانية والسياسية والإعلامية، قد تفجر وضعا محرجا إلى حد بالغ.
وعلى وجه العموم يثير هذا التأزم السياسي المتصاعد، المخاوف على سلامة الوطن ومصيره.
فهل تعي كافة الأطراف المعنية هذه الأبعاد الموضوعية، دون حاجة لللف والدوران على نمط سياسة النعامة، الصياد لا يراني.
إن تصريحات الرئيس السابق أعل ولد محمد فال، بغض النظر عن مراميه الخاصة من المشاركة في مسيرة المعارضة، زادت مصداقية المعارضة وأعطت دفعا قويا لنشاطها السياسي، الذي يلاحظ منذ بعض الوقت تزايده وتصاعده.
كما سيذكر له الموريتانيون هذه اللفتة النضالية، المفندة لشرعية المؤسسة الرئاسية والبرلمان الحالي.
وحرص قناة الجزيرة وكثير من وسائل الإعلام العالمية على تغطية هذا النشاط المتزامن، سواء تعلق بالمعارضة أو الموالاة، يدل على وقوع البلد داخل دائرة الاهتمام الدولي، مما يرشحه للتوتر السياسي المزمن.
إن لم تفلح المعارضة في إسقاط النظام أو إن لم يبادر ولد عبد العزيز إلى الإستقالة التي طالبه بها قريبه اعل ولد محمد فال.
ومن الملاحظ أن جهود ولد عبد العزيز، بضم بعض الأحزاب المعارضة إلى طاولة الحوار، لشق صف المعارضة قد باءت بالفشل تقريبا.
فحمام إنسحب إلى صف المعارضة المقاطعة وأحزاب المعارضة الممانعة بدأت تقوي شوكتها بشكل لا يمكن تجاهله.
ومما يستحق الملاحظة في سياق هذا العمل السياسي الميداني التنافسي، طابع التصعيد والتحامل والارتباك.
فخطاب المعارضة لم يخل من كلمة نابية وردت بشكل صريح على لسان أحد رموز المعارضة، رغم خلو أغلب المداخلات من الأساليب الساقطة على وجه العموم.
غير أن عزيز ظهر بصورة تدل على الارتباك وفقدان الصواب. فهو يشهد على نفسه بمخالفة السنة، وكان الأحرى به أن يكتفي بمخالفتها دون الترويح لحلق اللحى، البعيد عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وجاهر بقلة عهده، في موضوع القاعدة، المتعلق بتسليم الجندي الموريتاني، فبعد تمام الصفقة، صرح بضرب الطرف الآخر، وتوديعهم بالقصف الجوي.
كما بالغ في الهجوم على رموز المعارضة، واصفا إياهم بالكذب والجريمة والثوار العجزة، وأغفل أيضا -ضمن خطإ بروتوكولي فادح- السماح لعمدة المدينة بافتتاح المهرجان.
تراشق كلامي، وهبوط في مستوى التعاطي، خصوصا من قبل عزيز يدل على الخوف من الخصم اللدود ) المعارضة المقاطعة للحوار(.
شد متواصل للحبل، لا يدري فيما يصب بالتحديد، ومن سيكسب رهان الصراع المحتدم، المرجح أن يتحول إلى صدام مباشر خطير، إن لم يبادر ولد عبد العزيز إلى الاستقالة أو الفرار.