لا شك أن الجوقة القبلية التي تعزف جزافا هذه الأيام على أوتار الديمقراطية باتت لا تنطلي على أحد لفرط سخافتها و بعدها عن منطق الدولة الحديثة وقد اصبح من المعلوم أنها لا تستقيم مطلقا إلا على قاعدة المواطنة التي لا تخشى الزلازل و لا تهزها العواصف مهما تغيرت التضاريس السياسية و مهما اضطرب مناخها. حقيقة خبرتها شعوب كل الدول باختلاف أعراق أهلها و ألوانهم و معتقداتهم و تشهد منذ أمد بعيد استقرارا لا تعكره دلاء السياسيين و عدالة اجتماعية لا يوجهها الأفراد بل أطر دولها القانونية الثابتة و النمو المضطرد الذي تسهر عليه آليات تصحح نفسها بمقاييس تتعاطى باستمرار مع المتطلبات في تجددها و الأزمات في منحنياتها.
أن تبرز و تتحرك مبادرات، في ظرف سياسي معين تهدف إلى تقييم أو تثمين أو مساندة سياسة ما، أو رائد ما، هذا أمر طبيعي بالغ المعنى و جليله في هذا السياق الطبيعي حتى لا تمر هذه السياسة ذات الأوجه المميزة التي عادت على البلاد بفوائد جمة و ذاك الرائد الذي بذل الجهد و تفرغ للمهمة، كي:
• لا يمر ذلك كله إذا مرور سحابة الصيف ثم حتى تتكشف ضرورة استكمالها سياسة ناجعة تحمل في لبها بذور الاستمرار،
• ولا تغيب مناصرته رائدا أو زعيما أثبت جدارته و بصم على واقع بلده بما يوطده و يحميه من غوائل الزمن.
مبادرات ترى النور من عمق الرؤى التي يتقاسمها الكثير من الأطر و المواطنين المتجردين ممن لا يحملون لذلك من العناوين إلا ما يفصح عن التزامهم بقضايا الوطن و تعلقهم بمصالحه و دوافع إشاعة العدالة الاجتماعية بين أفراده و بنائه بلدا قويا مهابا لا يظلم و لا يغبن في كنفه أحد.
هي بذلك تكون المبادرات المستحبة و الأطر الجامعة تذوب فيها سلبية الأطياف و تدفع خارجها ظلامية الاعتبارات التي أضرت باللحمة و التناغم و الانسجام بين كل مكونات الوطن و شرائحه لحد الساعة أكثر مما أفادت و أخرت بما هو كاف من مظاهر التخلف و الفقر أضعاف ما قدمت على شكل ارستقراطية بائسة الشكل عديمة الالتحام بما هو كائن من مثيلاتها عبر العالم المتحضر.
وأما الذي نراه في كل مناسبة من المبادرات التي لا تهتم بشأن الوطن و لا تحمل همه و لا تحمي أمنه من التدافع المحموم إلى الوراء في هيستيرية متجددة لا يبررها مطلقا إلا الضعف الصارخ عن متطلبات التغيير و مسايرة مد الفكر الحديث و العجز المفضوح عن بناء الثقة في النفس جديدة لا تتكئ على قواعد الإقطاعية المهترئة الصدئة المتخذة في الخلفيات الجامدة قرارا مكينا و سدا منيعا في وجه التحول الإيجابي المنشود و لا تأخذ للارتقاء الذي يتيحه تنور العصر أسباب العمل المجدي و النجاح عند خواتمه.
و هي أولا المبادرات في هذا الثوب البراق التي تكون في ظاهرها الحق الذي يراد به الباطل. الحق متجسدا في قوة "المدعوم" بفضائل ذاتية و الباطل بـ"مفضوحية" المآرب المادية من :
• جاه تحمله الوظيفة المشتهاة
• و مداخل مالية ناتجة عن موقع التسيير المصاحب.
لكنها المبادرات التي و إن حملت أيضا كل اسم بارع في التمويه و التخفي فإنها تبقى بكل صفاء المشهد الذي حاولت أن تخدع عارية عن تمسك "تجار النسب" ببارود القبيلة للطلقات الموسمية في غفلة جمهور أفرادها الذين يطحنهم الفقر و يبقيهم أحياء منتشين من احتساء قذى قدح كأس الأمجاد الطوباوية.
و ثانيا المبادرات الرجعية المستشرية في العقول و التي تترجمها على أرض الواقع أفعال الالتحام حول النافذين و الأغنياء فيها، سوى المنهج الذي يحارب الديمقراطية و دولة القانون للجميع.
و لما أن كانت المبادرات بهذا الحجم من الحضور في الأذهان و القوة في التحرك، فإنها في واقع الأمر:
• لا تحرز أي نصر و لا توجه مطلقا القائمين عليها إلى ما يرعى الصالح العام بدء بذويهم من العشير الذين جمعوهم و كأنما دفعوا مركبتهم من عمق الوحل فلم تتوقف لتصحبهم إلى نقاء الأرض و انسيابية مسالكها،
• و لا تضمن صالح الوطن في استقراره و أمنه و بنائه على أسس العدل الشامل و المواطنة المشتركة وخلق فرص فتح آفاق المستقبل الواعد.
و هو بكل ذلك الأمر الذي يظل في العمق بعيدا عن "الكرنفالات" و قوة الأبواق ما لا يدرك حقيقته سوى المغبونون داخل السرب فلا يستجيبون في الواقع العملي إلا لقناعاتهم و قد بدأت تتحدد مع الاستقلالية التي أتاحتها الدولة في مفهومها البراغماتي و فلسفتها المتحررة من قيود البناء الكلاسيكي للمجتمعات البدائية المستعصية على التحول.
و لأن المجتمع الموريتاني متنوع الأعراق و مصاب في جسمه كله بداء التراتبية التي ترفع و تزدري، فإن اللجوء إلى القبلية بكل سلبيات التعاطي بها سياسيا لتجاوز كل عقبات الجدارة العلمية و العملية و الطموح المثابر الذي ينبني على الكفاءة و حب تحقيق الذات المستقلة المعطاء في صيرورة الوطن المزدهي، ولدت و إن بمسميات و تقاسيم أخرى و بأساليب و أفكار تبين عن بعض الاختلاف في منهج التعاطي بممارسات مغالطة تنهج ذات السبيل و تتبنى نفس الطموحات المجافية لمدارك الوطنية و مبتغياتها. و هي بمحاكاتها إنما تنافس على الحضور و تغالط عمقها البنيوي المستجيب رغم جوره في دائرة أصحابه في كل مكونة و شريحة.
و ما ضعف الأطر الحزبية منذ نشأة الدولة المركزية على يد المستعمر الفرنسي في ستينات القرن المنصرم إلى يومنا هذا إلا لأنها في جوهرها صناعة قبلية و عرقية و حديثا طبقية و إن خفي الأصل ظلا وراء الجسم الظاهر ضعفا أمام التحديات و الرهانات الكبرى.