الهدف من هذه السطور هو تقديم بعض الملاحظات حول تصريحات تتكرر على ألسنة عدد من المسئولين السامين في عرض ما يحتسبونه إنجازات النظام في مجال تسيير المال العام و في تبرير ارتفاع الأسعار.
و كان من الأجدر أن يكون أصحاب الخبرة من داعمين للنظام في الإدارة و خارجها (و هم كثر) من وزراء و مستشارين و أساتذة جامعيين هم الذين يفقهون أولئك المسئولين في بعض الإشكاليات التي قد تكون غائبة عن من لم ُيحصلها من خلال مساره الدراسي أو المهني.
فائض الميزانية و رصيد الخزينة
في بلد متخلف كموريتانيا يُعتبر فائض الميزانية دليلا على سوء التسيير(يا للمفارقة!) حيث لا يمكن تبرير هذا الفائض في الوقت الذي تفتقر فيه الأكثرية الساحقة من السكان إلى أبسط مقومات الحياة من ماء و قوت و سكن و كهرباء و صحة و تعليم. كما يعتبر سوء تسيير و لو من باب عدم قدرة الحكومة على تنفيذ الأنشطة المبوب عليها بموجب قانون المالية. و يلاحظ في هذا الإطار أن بنود الميزانية المتعلقة بالنفقات المشتركة و بنفقات البعض من الإدارات كالرئاسة و الوزارة الأولى تصرف بالكامل، بينما يعاني معظم القطاعات من تعثر كبير في تنفيذ الميزانيات المخصصة لها كما هو الحال في تنفيذ ميزانية الاستثمار سواءً منها ما هو ممول بموارد ذاتية أو ما هو ممول من موارد خارجية.
و من باب التنبيه، يعتبر عجز يصل إلى 3% من الناتج الخام العتبة السفلى في الدول الصناعية المتقدمة و يصعب النزول إليها بل لا تسعى هذه الدول إلى بلوغها (إلا بصفة استثنائية بموجب اتفاقات دولية) وذلك لحرصها على تكثيف الإنفاق لتوسيع و تحسين الخدمات الاجتماعية (الجيدة أصلا) لصالح مواطنيها من تأمين صحي و نقل عمومي و ترقية للتعليم و دعم للفئات الهشة. و ينفقون في هذا السبيل كل ما توفر لديهم من وسائل و من موارد. فكيف لدولة كموريتانيا أن تفتخر بفائض مهما كان قدره و سكانها يعانون من أبشع أنواع الفقر و التخلف؟
أما ما يتعلق بالرصيد المعتبر لدى الخزينة، فمن الغريب أن نشاهد (والحالة هذه) بين الفينة و الأخرى مظاهرات مطالبة بدفع مستحقات على الدولة من أجور و علاوات و منح للطلاب و يشتكي موردو الدولة التأخر الكبير في تسديد فواتيرهم، إن تسدد أصلا. و بالفعل يكون من السهل التوصل إلى هذا الرصيد الهام إذ تُحصل الأموال من ضرائب و إتاوات ومن مداخيل المعادن و الصيد و المنح الخارجية (كتلك السخية المقدمة من ليبيا الشقيقة مثلا)، دون أن ُتنفق الدولة على تغطية حاجيات المواطنين ودون صرف الميزانيات المعتمدة قانونيا مع الامتناع عن تسديد مستحقات الموردين و غيرهم من أصحاب الحقوق.
كما يصعب تبرير توقيف الزيادات السنوية لرواتب و معاشات الموظفين التي سنت منذ بداية هذا القرن و انقطعت في السنوات الأخير ة (باستثناء زيادات هزيلة) رغم التحسن المعتبر للوضعية المالية للدولة ..
ارتفاع الأسعار
يقول سياسي فرنسي كبير(إذا كان الجفاف من الطبيعة فالمجاعة من السياسة) و يعني بذلك أن دور الحاكم هو السعي في حماية المواطنين أو على الأقل في تخفيف معاناتهم من التأثيرات السلبية التي قد تنجم عن العوامل الخارجية. فإذا كان فعلا ارتفاع الأسعار ناتجا عن عوامل خارجية فهذا لا يعفي السلطة من اتخاذ التدابير اللازمة لتخفيف معاناة المواطنين ذوي القوة الشرائية المتدنية أصلا من وطأة ارتفاع الأسعار.
و قد ساهم، نوعا ما، برنامج أمل في هذا الغرض إلا أنه محدود الفائدة بسبب تغطية ناقصة جدا عن المطلوب كماَ و كيفاً و من ناحية التوزيع الجغرافي. و يُخشى أن يكون هذا البرنامج مجرد درع استباقي اتخذه النظام لا لتخفيف معاناة المواطنين بل لمحاولة تفادي الاضطرابات الاجتماعية التي غالبا ما تنجم عن هذه الحالة من جهة، و للتصدي للانتقادات الموجهة إليه لما قام (أو لم يقم) به في مواجهة هذه الظاهرة من جهة أخرى.
و من ضمن الإجراءات التي كان و ما زال ممكنا اتخاذها في هذا الصدد تخفيض الجمركة على المواد الأكثر استهلاكا أو دعم أسعارها في الحدود التي تسمح بها الموارد المتوفرة. فليس المراد من المال العام أن يكدس للتفرج عليه من حين لآخر و لا للمباهاة به في المناسبات السياسية بل يتعين أن ينفق لتلبية الحاجيات الأساسية للمواطنين و للتخفيف من وطأة ارتفاع الأسعار التي تثقل كاهل الفقراء و ذوي الدخل المحدود.
و في نفس السياق يمكن أن نتساءل كيف تراجعت قيمة العملة الوطنية بشكل ملحوظ (مع ما يصاحب ذلك من ضرر على القدرة الشرائية للمواطنين) رغم الرصيد المعتبر من العملة الصعبة المتوفر لدى البنك المركزي و دور هذه المؤسسة هو بالذات الدفاع عن القدرة الشرائية للمواطنين و عن قيمة العملة الوطنية. و إن كان مؤشر أداء هذه المؤسسة يقيم على أساس هذين الهدفين فلنستنطق الأرقام. ففي بداية أغسطس 2008 كان سعر الدولار لا يتجاوز 230 أوقية و سعر اليورو360 أوقية في الوقت الذي كان الرصيد من العملات الصعبة في مستوى متدنيا بين ما وصل الآن سعر الدولار إلى 300 أوقية و سعر اليورو 415 أوقية و الرصيد في أعلى مستوىً له. أما بخصوص القدرة الشرائية فإن الأسعار مرتفعة (بشكل يصفه البعض بالصاروخي) باعتراف النظام الذي يبرر هذا الارتفاع بالظروف الدولية.
إشكالية "الركاب بالمجان" و أسعار المحروقات و أمور أخرى
يبرر النظام امتناعه عن دعم سعر المحروقات (التي ازدادت أسعارها عشر مرات على الأقل في سنة واحدة) بأن أصحاب السيارات الفاخرة قد يستفيدون من هذا الدعم. و يطلق الاقتصاديون الأمريكيون على هذه الإشكالية عبارة "الركاب بالمجان" التي تعني استفادة أقلية غير مستهدفة من دعم عام، إلا أنه في حالة دعم قطاع عام كالزراعة مثلا أو دعم الأسعار، يكون ذلك مبررا لتحقيق هدف اقتصادي يعود بالنفع العام على الاقتصاد الو طني (الأمن الغذائي) أو بدعم القوة الشرائية للمواطنين.
و بخصوص أسعار المحروقات، فمن الغريب أن تحرم الأكثرية الساحقة من المواطنين من إجراءات تدعم و لو بقليل قدرتهم الشرائية حرصا على حرمان أقلية ضئيلة من الاستفادة من هذا الإجراء و كأن الاهتمام الغالب عند النظام هو بالذات حرمان هذه الفئة من المواطنين.
و لإنصاف أصحاب السيارات الفاخرة (و لن أسمي نوعا تفاديا للتجريد أو للإشهار بالمجان)، فإن هذه الفئة "المضطهدة" تدفع من الجمركة و من الضرائب و الإتاوات (بما في ذلك الإتاوة على السيارات "فينيت") ما لا تدفعه الفئات الأخرى و يمكن أخذ ذلك كتعويض لما قد يستفيدون منه من دعم عام. ويدرك الغبي أن المحروقات من المدخلات الأساسية للإنتاج و من أهم مكونات أسعار البضائع و الخدمات. فحتى سعر الجزرة المنتوجة محليا يتأثر بتغير سعر المحروقات. أما نقل البضائع و الأشخاص و ترقية التبادل البيني و مع الخارج فالعلاقة بديهية. فالمحروقات هي بامتياز وقود المحرك الاقتصادي و المادة التي يؤثر سعرها بصفة مباشرة و غير مباشرة على القدرة الشرائية للمواطنين و معلوم أن أكثريتهم الساحقة من الفقراء ومن ذوي الدخل المحدود.
و لا يمكن تبرير هذه الزيادات المتكررة بارتفاع الأسعار الدولية حيث كان سعر ليترٍ"كاز وال" الواحد 250 أوقية في بداية أغسطس 2008 حين كان سعر البرميل يبلغ 148$ أما الآن فقد وصل سعر الليتر إلى 380 أوقية بينما هبط سعر البرميل إلى 110$.
و قد غاب تخوف النظام من استفادة فئة غير محتاجة من إجراء عام على حساب الفئات الفقيرة ، الذي كان حاضرا لتبرير الامتناع من دعم أسعار المحروقات، عند اعتماده للإجراءات الأخيرة في قطاع الزراعة. و رغم أن الزراعة تستحق كل الدعم، إلا أن إجراءات إلغاء الديون و شراء المعدات بأثمان مخفضة المستفيد منها هم أصحاب المزارع الكبيرة و أصحاب القروض المعتبرة (و أصحاب السيارات الفاخرة) كما أن لديهم الموارد المالية لشراء الآليات و التجهيزات. أما المزارعون البسطاء و هم الأكثرية فمديونيتهم على قدر المساحات الصغيرة التي يستغلونها و لا قدرة مالية لديهم لشراء المعدات مهما وصل سعرها من تخفيض.
و لصلة الكاتب بالموضوع، فإن الاستفادة من الاستثمار في شركة للطيران مقصورة على ذوي الدخل العالي أو المتوسط ولا يفيد الفقراء بشيء يذكر. فكان من الأجدر أن تستثمر الأموال الهائلة التي صرفت لشراء الطائرات (و المبالغ ما زالت مجهولة و تقدر بما بين 60 و 90 مليون دولار) في قطاعات أعم نفعا كقطاع الطرق مثلا الذي يحظى بأولوية خاصة لدى النظام. و فيما يتعلق بترقية السياحة فكان و ما زال ممكننا الاستغناء عن هذه الشركة، حيث تحط في مطار نواكشوط 7 شركات أجنبية قد تكون كافية لنقل السياح الذين أصبح يأتي عدد كبير منهم، و في تزايد، عن طريق البر.
و مهما يكن من أمر، فقد حان الأوان على نشر الشركة المنشَأ ة بالمال العام موا زناتها ليتطلع المواطنون على ما حققته من أرباح. و لنا عودة بحول الله لتناول مواضيع أخرى تهم المواطنين.
محمد الأمين ولد ديدّاه وزير سابق