بدت الساحةُ السياسية إبَّان التجربة الديمقراطية "الطائعية" واضحةَ المعالم و"الأشياء ليست دائما كما تبدو"، فسطاط للخير- معارضة العقيد- ممثلٌ برجالٍ صالحينَ قابضينَ على جمر المبادئ، لا تُغريهم مناصب العقيد ولا تُلينهم سجونه، ونساء صالحات تجوع إحداهن ولا تأكل إلا طيبا. وفسطاط للعقيد بخَيْلِه ورَجْله، يعتلي الرجل منهم المنبر، لا يقول إلا كذبا ونفاقا، على وقع تصفيق الجماهير التي تعرف أنه كاذب منافق، وحتى لا تبقى هناك ذرة من قيم أو خجل... فالخطيب يعلم جيدا ان الجماهيرَ-بما فيها الزوجة والأبناء- تعلم أنه كاذب، ليس في القوم رجل رشيد!
كانت الأمور على هذا النحو من السوء، فسطاط الدجال يَرْفَلُ في نعيم الدولة: أحياء كبيرة راقية تم بنائها في تلك الفترة، إمبراطوريات مالية، أسواق؛ سيارات عابرة للصحراء وللقيم، نهب كامل لممتلكات الدولة، وسحق لكلّ قيم المجتمع.."سَدُوم وعَمُورة" انتفضتا من تحت الأنقاض، وفسطاط القيم يُسعر به جحيم المعارضة، غير أنّه كان هناك من يُطمئن النفس بأنّ هذه حالة طارئة وغيرُ مسبوقة بالنسبة لشعبنا الطيّب النّبيل، وبأنّ الأمور ستنتهي إلى خير حسب منطق الأشياء؛ ففي النهاية لا يصحّ إلا الصّحيح.
عشية الثامن من يونيو حزيران 2003 قامت كوكبة من "الجنود البواسل" بمقارعة جيش العقيد في معركة انتصر العقيد فيها، إلاّ أن الواهمينَ بشأْنِ الحاضرِ، الجاهلينَ بواقع الأمسِ، الحالمينَ بغد أفضل، اعتقدوا أنّها بمثابة "معركة ترومبيل" التى ستوضح للجميع أنّ العقيد فانٍ، وأنَّ نظامه ليس قدرا أَبَديا؛ فاتحةْ الباب للتخلص من حكمه النشاز، وفعلا بعد فترة وجيزة في عُمر الشعوب حدثت ثورة - لكنْ في البلاط - أطاحت برأس النظام دون المساس بالهيكل!، كان الفرح منقوصا؛ فثورات البلاط غالبا ما كانت لصالح الحكم وليست عليه، والمؤسسة الأمنية ومؤسسة الفساد هما الأسوء في نظام العقيد، والعقيدُ قائدهما هو من تصدّر المشهد كمُخَلِّص!.
بدا الأمر أشبه بسرقة الثورة منه بالثورة، وبدلا من زيادة التماسك في معسكر المعارضة والمطالبة بمحاكمة المفسدين واستعادة أموال الدولة وتجريم المجرمين، بدأ التصدع والتفكّك، انخرطت أحزاب المعارضة "التاريخية" في سباق محموم لاستقطاب أكبر عدد ممكن من مناضلي و"حرامية" الحزب الجمهوري، وكأن القوم إخوة يوسف، كان الشيطان قد نزغ بينهم، وبانتقاله إلى جزيرة قطر؛ عادوا لطبيعتهم: إخوة متحابّين!.. توّج المُخلّصُ الجديد المرحلة بشعاره المشهود " عفا الله عما سلف".
لم تعد المعسكرات واضحة المعالم كما كانت، تغيرات طفيفة حدثت في مراكز اللاعبين لكن الفريق نفسه استمر في اللعب والدفاع عن ألوان العلم الوطني!..كم كانت المفاجأة كبيرة ومؤلمة!.. وما هذه القدرة العجيبة على التغير والتبدّل والتكيّف؟!. وإذا جاز تفسيرها بالنسبة للحزب الجمهوري ( الهياكل وحزب الشعب سابقا)، فكيف يمكن تفسيرها فِي ما يتعلق بالرجال الصالحين القابضين على جمر المبادئ...(المعارضة)؟!
كان البحث عن الجواب يقتضي ـ بداهة ـ العودة إلى الأمس؛ فتاريخ المجموعات البشرية هو المُسْعفُ في فهم طريقة تفكيرها وبالتالي تفسير تصرفاتها؛ لأنّه ببساطة هو المُشكل الأبرز لعقلها وضميرها الجمعي، وبدون كثير عناء يُظهر كتاب التاريخ -الذي لا يرحم- بجلاء الجانب المخزي لتعامل بعض نخبنا مع المخزن بداية من عام "شاكس" إلى اليوم، في مراسلات العلماء والزعماء مع المستعمر، في نتائج وأدبيات "وَيْ – نون"... الرئيس الراحل المرحوم المختار ولد داداه نفسه، الخبير العارف بتلك "النخب"، الكتوم الذي لا يذاع له سر، لم يستطع إخفاء المرارة وهو يتحدث في مذكراته عن بيانات رفاق الأمس المؤيدة للانقلاب عليه واللاعنة لفترة وطريقة حكمه، والتي كان يستمع اليها من محبسه عبر إذاعته: إذاعة الشعب!.
بدا أنّ المسيرات المؤيدة ل"تصحيح" 12-12 عارية من أي مبدأ سوى النفعية والانتهازية، وأنّ جحافل التائبين من المعارضة العائدين الى الحزب الجمهوري بعد انتخابات 1992 وما بعدها لم يكونوا استثناء من المعارضين، فالمعارضة مناوَرة في مفهوم هذه النّخب، ولكلٍّ هامشه من المناورة!.
ليست جمهورية ولا إسلامية، لا معارضة هناك ولا هُم يحزنون لغير مصالحهم الضيقة، هناك قوة استعمارية تعاونت معها نخبة مسكونة بهاجس تشكيل "دولة" في هذه الأرض، التفت حولهم طبقة سياسية باعت روحها للشيطان، أسّسُوا كيانًا لا ينتمي لأيّ من سياقاتنا الثقافية والتاريخية، التقطوا له من قارعة التاريخ اسما وفُرض علينا بحكم الاستعمار والجغرافيا أن نصبح مواطنين في "جمهورية إسلامية رئيسها ديغول"..رحلت النخبة بأَجْرِ الاجتهاد!.. وبقيت الطبقة الحربائية تميل ـ بمرونة خارقة - في اتجاه الرّيح عند كل هبوب، لم يكن حكم العقيد استثناء في تاريخ الدولة، ان اختلفت الدرجة فالنوع واحد؛ مع أن هَدْرُ الرَّصيد المعنوي للوطن لا يقلُّ سوءًا عن هَدْرِ ممتلكاته المادية: "ماذا يستفيد الانسان لو ربح العالم وخسر نسفه"؟!.
هي إذن حالة مزمنة، ميؤوسٌ من شفائها، لولا أن "المدينة دهرها دهران" وفي كتاب الدهر الثاني يُقرأ بوضوح زيف الرواية الرسمية حول الاستعمار و المقاومة، حول "الاستقلال" و الدولة، في التنكيل الذي تعرض له الأمراء والزعماء والعلماء... المناوئون للاستعمار ودولته، يبدو جليا في هذا الكتاب:
أن نفي المستعمر للشيخ حماه الله –رضي الله عنه- إلى فرنسا في رحلته الأخيرة ـ وهو النّفي الذي سبقه نفي إلى ساحل العاج مرورا بالمذرذرة- لم يكن بسبب الحروب القَبَلية، بل لأن الشيخ ـ العارف - لا يعرف تواريخ الأعياد الفرنسية، لأنه رافض لتدخل الحاكم الفرنسي في الأحكام الفقهية المتعلقة بقصر الصلاة، ولأن تأثيره ـ الذي كان يفزع المستعمر ـ تخطّى حدود مستعمرة كبولاني!
أن مشكلة الزعيم أحمدّو ولد حرمة ولد ببانة سابقة على لجوئه للمغرب، وقبل تزعمه للتيار المطالب بالاستقلال الفوري عن فرنسا، كل ما في الأمر ان الزعيم لم يكن مواطنا فرنسيا صالحا بما يكفي ليكون له دور في قادم الأيام، فقد هدد من تحت قبة البرلمان الفرنسي بالعودة إلى الصحراء وإعلان الجهاد إذا ما أصرَّت فرنسا على إرسال المساعدات العسكرية إلى عصابات "الهاجناه" في فلسطين.
أنّ سعي الأمير النبيل محمد فال ولد عمير كان خالصا لهذه الأرض تاريخا وجغرافية، فقد ترك المغرب التي كان مكرّما فيها عزيزا ـ كما كان دائما ـ و التي زينت شارعا من أكبر شوارعها باسمه، - حتى يسلم الشرف الرفيع - مواجها مصيره هنا!.. بعنفوان الفرسان وشجاعة أصحاب المبادئ ، فلا نامت أعين الجبناء... الكثير الكثير من الرجال العظام الذين رفضوا الرضوخ للمستعمر مما عرّضهم للقتل والتشريد من أوطانهم والتشويه في صفحات كتاب التاريخ الرسمي.
ليس الهدف من هذه السطور التى هي مجرد تجربة خاصة وانطباعات شخصية، المساس من شخصيات وطنية يعتبرها البعض أبطالا، ولا هُوَ خلق أو تمجيد ْ أبطال آخرين. وإنما تدليلا وتأكيدا على أنّ روح المقاومة و صوت الواجب والضمير لم يعدموا في هذا الشعب يوما، وأنّ الضامن الحقيقي للقيام النهائي للجمهورية الثانية بسلطتها ومعارضتها، يكمن في الاستمرار في محاولات خلق المناخ الملائم لنمو هذه القيم... وأنه آن لتلك الطبقة الدولة، بعد قرنٍ من احتكار الدولة حصيلته: "عفا الله عما سلف"، جاء بعده عقدٌ من اختطاف المعارضة حصيلته "القاب مملكة..." من الجبهات والمنسقيات والمنتديات، والحوار ثم الرحيل ثم الحوار...، والمقاطعة فالمشاركة... أنْ تدرك أنّه لكل أجل كتاب وأنّ الكَيّسَ مَن دَانَ نفسَه...