يحدث هذا في معظم دول العالم منذ أزمنة متفاوتة. لكن موريتانيا من دول قليلة جدا لا تتوفر على مختبر جنائي ولا حتى على خبرة رفع البصمات الجنائية.
قد نفهم أن لا تتوفر عاصمتنا، فأحرى المدن الأخرى، على صرف صحي؛ لأن شعبنا مارس حياته عبر السنين دون الحاجة لهذه المرافق. وعلى أساس تلك البداوة والبساطة أقام عاصمته ومدنه وقراه.
لكن انتشار الجريمة أمر طارئ لا تنفع الطبيعة الفضائية إلا في زيادته وتعقيده. وبدلا من امتلاك الوسائل التقنية الكثيرة والفعالة في مجال العلوم الجنائية، مثل رفع البصمات البشرية وبصمات العجلات وبصمة العين... ما زالت شرطتنا الوطنية تستخدم، في أفضل أحوال العناية، تقنية "قص الأثر" التي كان الأجداد يستخدمونها لإمساك الضوال الهمل من الأنعام والخيل والحمير...
تصوروا لو أن أجهزة الأمن والقضاء تملك مختبرا جنائيا مجهزا بخبرة رفع وتحليل البصمات وطبقتها في جريمة تمزيق المصحف الشريف الخطيرة، فقامت بمقارنة بصمات المجرمين ببصمات كافة الأشخاص ـ المواطنين والأجانب ـ المسجلين الآن لدى وكالة السجل السكاني والوثائق المؤمنة، لكان من السهل عليها أن تحدد هويات الفاعلين وتمسك بهم، أو تحصرهم في الفئات غير المسجلة وتلك خطوة كبيرة نحو تحديدهم.
وفي الحقيقة فإنه بدون وجود هذه الأجهزة التقنية وخبراتها البشرية، لا معنى لأخذ بصمات المشبوهين ثم تسجيل البصمات ضمن السجل المدني لكل مواطن أو مقيم.
ويطرح الغياب الكلي للمختبر جنائي وطني وللطب الشرعي والجنائي عموما في بلادنا حتى اليوم أسئلة محيرة، هل ذلك مجرد عجز مادي وبشري أم هو إهمال وعدم عناية من السلطات العمومية بالعدالة، بل بحياة الناس وممتلكاتهم، التي تسهم هذه الوسائل بشكل فعال في حمايتها؟!.
وعلى كل حال كم من المؤسف حقا أن تظل عناية كل سلطة مركزة، في جوانب الأمن والقضاء، على الشأن السياسي.
وهكذا فإذا نظرت إلى البادي فقط من إمكانيات أجهزة المخابرات السياسية ووسائلها المتطورة، وأجهزة "الإرهاب" المعروفة بمكافحة الشغب، فستجد أنها تتوفر على إمكانيات مادية وبشرية كبيرة وعلى أحدث وسائل القمع والاعتقال... ولكن إذا دلفت إلى أي مفوضية عمومية للشرطة فستفاجأ بأنك انتقلت إلى عالم العصور الغابرة، عالم يطبعه الإهمال والعوز والبؤس: لا سيارات، لا رجال، لا توثيق، لا مقاعد ، لا أقلام، لا ورق... ولا شيء على الإطلاق سوى الأوساخ وقلاع العنكبوت وروائح البؤس!.
بالتأكيد لن تعود إلى هناك بإرادتك لأي سبب ولا أي محنة!!
إن وجود مختبر جنائي معزز بجهاز للطب الشرعي أصبح منذ وقت بعيد ضرورة ملحة للحد من الجرائم المتزايدة ولدعم أجهزة القضاء والمحاكم، التي مع الأسف لا يختلف حالها عن مفوضيات الشرطة العمومية.
وبدون "إنجاز" هذا المرفق الحيوي فإنه لا معنى لهذه الخيلاء الزائفة والتبجح بالتقدم والإنجازات في مجال التقنيات والثورة الرقمية والبث الفضائي... فعلى الأرض أمور أولى بهذا الإنفاق المتلبس بالنفاق!
كذلك فإنه بغض النظر، عن حقيقة ودوافع تهميش جهاز الشرطة الوطنية، الذي عليه ما عليه، فإن الجهاز الذي حل محله في جوانب شديدة الالتصاق بأمن المواطنين وسلامتهم (جهاز أمن الطرق) قد ترك فيما يبدو يواجه مصير الشرطة من العجز والفاقة والشلل
إنه الآن عرضة لسخرية واستهزاء أصحاب السيارات الذين لا يملك أي وسيلة ولا سلطة لضبطهم وإلزامهم بالنظام... إنه لا يملك حتى وسائل إزاحة سيارة تسد الطريق، ولا حتى علبة صباغة لرسم خطوط السير على الطرق القليلة أو طلاء صخور الأرصفة السوداء التي يصطدم بها السائقون في ظلمة الليل البهيم (التي يدفع المواطنون لشركة الكهرباء رسومها شهريا باسم "الإنارة العمومية"!!)
وهكذا فإن سيارات الأجرة، التي هي ملجأ آمن في أنحاء العالم، باتت عندنا شركا رهيبا للخوف والردى!. فلا لون لها ولا رقما ولا وسما... يقودها ملثمون لا يتوفرون في الغالب على رخص سياقة ولا على قدر من الأدب واللياقة. وأصبح دور "الشرطة الجديدة"، شيئا فشيئا، هو الدور ذاته للشرطة القديمة: جباية 200 أوقية على قارعة الطريق لخلق مزيد من عقبات المرور!
أما السيارات الخصوصية التي لا تحمل لوحات ترقيم فلها في العالم بأسره مكان واحد حر هو شوارع هذا البلد. بينما يستورد أصحاب البورصات ما استطاعوا من مخلفات المركبات من كافة أنحاء العالم ليسدوا بها الشوارع الضيقة أصلا، كمساهمة بارزة في اختناق المرور الذي لا غنى عنه لاتقان خنق المواطن!.