جميل جدا أن تطالب كل مجموعة بشرية بتحريرها من كافة أشكال الاستعباد و الاسترقاق، و أجمل من ذلك أن يتطلع كل فرد أو مجموعة في وطننا العزيز إلى الخروج من بوتقة التهميش و البحث عن اعتباره و منحه قيمته الحقيقية حتى يتمكن من وجود ذاته في شتى تجليات الحياة العامة لهذا المجتمع، و هي مساع بشرية شريفة و أهداف سامية لا تتناقض البتة مع الأهداف السماوية التي سعت الديانات السماوية و يسعى الإسلام إلى تحقيقها على وجه البسيطة [ و لقد كرمنا بني آدم...].
لقد طالعتنا مؤخرا بعض وسائل الإعلام المرئية الموريتانية مؤخرا ببرامج حوارية تتناول غالبا الاستعباد و التهميش في موريتانيا، لكنهم يصورون المشهد الموريتاني على أن ضحايا الاستعباد و التهميش هما مجموعتا لحراطين و لمعلمين و أن المسؤول عن ذلك هم البيظان حسب تصريحات الضيوف و كما يحلو للمحاورين غالبا، في حين يغيب غالبا أي صوت يصدح بالحق لا من طرف المنتسبين للحراطين أو لمعلمين من جهة و لا حتى من طرف البيظان أنفسهم الذين لا شك أن لديهم ما يقولون في هذا الصدد...، و بما أن الساكت عن الحق شيطان أخرس قررت ألا أكون كذلك و ألا ينطبق علي ما انطبق على الكثيرين، حيث يرى البعض أن هذا الموضوع لا يستحق النقاش لأنه ساقط و كاذب و دون المستوى، في حين يرى البعض الآخر أن الإدلاء بأي رأي في هذا الصدد من شأنه أن يذكي نار الفتنة و كلاهما حجج واهية و باطلة، فالسكوت في هذا المقام أخطر من الكلام خاصة و أن الكثيرين ممن يستغلون هذه المنابر باسم المجموعتين يتلفظون بألفاظ خارجة على المألوف غالبا بل و تخدش كرامة مجموعة عريقة و فاعلة و ركيزة أساسية من ركائز هذا المجتمع هي مجموعة البيظان، لأن الاتهام باستعباد و استغلال البشر تهمة بشعة لن ينصاع لها من له بقية أخلاق أو شيء من التقوى.
أنا لا أتكلم باسم مجموعة البيظان لأنني لست أهلا لذلك لجهلي و ضعف حيلتي، كما أن ذلك يكرس و يساعد في تكريس الطائفية و العرقية، و هي أمور لا تخدم أمة تطمح لأن تكون ديمقراطية كما لا يخدم ذلك شيئا في سبيل فك معادلة الغبن و المساواة التي هي كنه المشكل الحقيقي الذي يعاني منه هذا البلد.
يقول ضيوف قناتي الساحل و الوطنية الحرتان من لحراطين بأنهم يعانون من الاستعباد و أن العبودية لا تزال قائمة و موجودة في موريتانيا بطريقة منظمة و ممنهجة و أن البيظان هم الذين يستعبدونهم، و كلها ادعاءات واهية و باطلة و لا أساس لها من الصحة، بل هي مجرد شعارات و يافطات يستغلها البعض بغرض إلفات الرأي العام إليهم على أنهم حقوقيون يسعون إلى تحرير لحراطين من واقع الاستعباد، و بغرض الانتفاع من جهات دولية ناشطة في مجال حقوق الإنسان أو ابتزاز جهات أخرى لتجود بشيء من أجل إسكاتهم إذا كان هناك من يحرجهم الحديث في هذا الصدد...
و حقيقة الأمر أن الاستعباد لم يعد موجودا في موريتانيا، و إذا صح أن شخصا ما قام باستعباد أو استغلال شخص ما فقد فعل فعلا مجرما يعاقب عليه القانون و يرفضه كل المواطنين ككل الجرائم الأخرى، ففي هذا البلد يوجد القتل و السرقة و الزنى و شرب الخمر و الاحتيال و السطو...، و كلها أفعال لا تقل شأنا عن الاستعباد و مجرمة مثله بفعل القانون و الشريعة الإسلامية و تتم ممارستها من طرف بعض البيظان كما يمارسها بعض الحراطين و لمعلمين، و عليه فهي أفعال انفرادية و شخصية و ليست جماعية و لا ممنهجة و لا تلتصق بمجموعة دون أخرى، و سوف تبقى هذه الأفعال موجودة إلى الأبد لأن أفراد المجتمع لا يمكن أن يكونوا خيرين كلهم، و بالتالي لا مانع من العثور على حالة استعباد أو استغلال يمارسها شخص ما على شخص ما، لكنها تبقى في كل الحالات مستهجنة و مرفوضة من طرف الجميع و يجب أن لا يسكت عليها أحد، لذلك فإنه من غير المقبول و مما لا يجوز السكوت عليه أن نعمم حالة نادرة على أنها حالة عامة و سائدة، فذلك ظلم و جور و افتراء، و عليه يجب على المجتمع و على المشرع أن يجرم كل شخص اتهم آخر بممارسة الاستعباد إذا لم يثبت ذلك.
أما الإخوة لمعلمين الذين ربط اسمهم بالتهميش من طرف من يدعون أنهم يتكلمون باسمهم فأرى أن مبادرتهم هذه مجرد تلفيق لبعض الحجج من أجل خلق قضية لم تكن موجودة أصلا و كأنهم يريدون فقط أن تكون لهم قضية، فعلى مر السنين ما احتقرهم إلا حقير و ما نظر إليهم بالدونية إلا دوني، لكنه على الجميع أن لا يتناسوا أن هذا المجتمع عرف طبقية طبيعية اختيارية على أساس المهام و الوظائف لا على أساس الاحتقار و لا الخدش من كرامة الآخر بل هي حتمية تاريخية فرضتها حاجات المجتمع في مرحلة ما، و عليه فإن التركيبة التي يتميز بها المجتمع البيظاني الموسع وليدة التطور الذي مر به كغيره من المجتمعات و ليست وراءه أية نية مبيتة، مما يجعل محاولة تجريد لحراطين و لمعلمين على أنهما مجموعتان مستقلتان عن مجموعة البيظان فذلك ضرب من البحث عن المستحيل، فالبيظان جسم واحد بحكم الثقافة و التاريخ و اللهجة و العادات.
لن أنسى أن أعلق على ما يبدونه من تذمر حيال المحاصصة التي يتكلمون عنها في الوظائف و التعيينات الحكومية، لأقول بأن الدولة ليست تركة و لا كعكة تتقاسمها المجموعات بالتساوي، بل هي ملك عام مستمر ينال منه كل واحد حظه بالاستحقاق إما بالانتخاب أو بالخبرة أو بالنجاح في المسابقات، فالباب مفتوح على مصراعيه للجميع بالتساوي دون اعتبار اللون أو العرق أو الطائفة، و من لم يحصل على شيء فمنه لا من المجتمع لأنه عاجز فقط لا أكثر، فكل شخص يصنع مستقبله لنفسه بالدراسة أو التجارة أو السياسة... أو كما يشاء.
يقولون بأن البيظان لا يزوجونهم بناتهم لأنهم يتعالون عليهم، ربما يكون ذلك صحيحا لأنه يحق لكل شخص أن يعطي أو يمنع ما يملك، فليتعالوا هم على البيظان و يمنعونهم من الزواج ببناتهم، فمن يمكنه أن يفرض عليهم شيئا لا يرضون به ؟
ألا يعلمون بأن بعض الحرطانيات و لمعلمات يتكبرن على البيظان و يرفضن الزواج من بيظاني ؟ تماما كما أن الحراطين يرفضون في بعض الأحيان من طرف حرطانيات كما يرفض بعض لمعلمين من طرف أمعلمات!!! و ربما تناسى هؤلاء المناضلون أن في البيظان نسوة تزوجن من زنوج و امعلمين و حراطين و حتى في بعض الأحيان يتزوجن من فرنسيين إذا رضين بذلك، على كل حال بإمكان كل حرطاني أو أمعلم أن يتزوج ببيظانية إذا قبلت به و رضيته لنفسها، فلا أحد يمكنه أن يفرض عليها شيئا.
خلاصة القول أن هؤلاء الإخوة الذين يتكلمون عن التهميش في موريتانيا إنما يتكلمون عن شيء حاصل فعلا في هذا البلد لكنه ليس حاصلا في حق مجموعة معينة دون غيرها، بل تعاني منه كافة الفئات بما فيها البيظان أنفسهم، فالمسيطرون على مصالح الدولة من بيظان و حراطين و امعلمين و زنوج يهمشون غيرهم من بيظان و حراطين و امعلمين و زنوج، فالجميع يمارسون التهميش و الجميع يعانون منه.
أما الاستعباد فلا يوجد منه غالبا سوى استغلال القوي للضعيف بقوة المال لا بقوة الملك كما يدعي البعض، فكل قوي يستغل كل ضعيف يحتاج إلى ما في يده من مال لسد حاجته و حاجات عياله، لذلك أصبحت كل مجموعة تمارس الاستغلال على المجموعات الأخرى، فلا أحد ينكر أن بعض الحراطين يستغلون بعض البيظان المحتاجين إليهم تماما كما يستغل بعض البيظان بعض الحراطين، بل يستغل البيظان البيظان تارة و يستغل الحراطين الحراطين تارة أخرى.
و أخيرا أدعوا كافة أصحاب الأقلام الشريفة و المنابر الحرة إلى الرد على هذه الدعايات المغرضة التي من شأنها أن تجعل من الطالح صالحا و من الخبيث طيبا، فالسكوت ليس مقبولا لأن الإعلام الذي تمرر من خلاله هذه الأفكار الرجعية إعلام يستهدف غالبا طبقات غير محصنة، و عليه لا بد من خطابات توازي تلك الخطابات و أفكار تفند تلك الأفكار.
