من المؤكد بأننا لا نملك في هذا البلد مراكز لقياس الرأي العام ولا لتحديد اتجاهاته، لذلك فإنه لن يكون بالإمكان أن نتحدث عن المزاج العام لأغلبية المواطنين، ولا عن اتجاهاته، إلا من خلال تحليل بعض المعطيات التي ربما تكون لها صلة وثيقة بذلك المزاج، أو تأمل بعض المظاهر والمشاهد التي يمكننا أن نتعامل معها بوصفها تعكس ذلك المزاج، أوأنها تعبر عن اتجاهاته.
واعتمادا على تلك المعطيات فيمكن القول بأن المزاج العام، والذي يُقصد به مزاج أغلبية المواطنين، قد تغيرت اتجاهاته ثلاث مرات في السنوات الخمس الأخيرة. والغريب أن هذا المزاج قد انتقل بين الكتل السياسية الثلاث، وكأنه بذلك أراد أن يكون عادلا مع الجميع، فأعطى لكل كتلة فرصة، فإن شاءت استغلتها، وإن شاءت ضيعتها، وكثيرا ما يضيع ساستنا ما يتاح لهم من فرص.
أتيحت الفرصة للرئيس محمد ولد عبد العزيز في الانتخابات الرئاسية الماضية، وكان من الواضح أن المزاج العام كان لصالحه، وهو ما عبرت عنه نتائج الانتخابات الرئاسية.
كان المزاج العام في تلك الفترة يميل إلى خطاب قوي، وإلى رئيس قوي وجريء، يهدد رموز الفساد ويشيد لهم السجون، ويختلط بالفقراء في أكواخهم، ويعد بتوزيع العدالة، ويقطع العلاقة المشينة مع العدو الصهيوني، ويؤكد للناس بأن خزائن الدولة ملآى بالنقود، وأن التغيير البناء قادم، وأن موريتانيا الجديدة ستشيد بين عشية وضحاها على كثبان الرمال، أو في عمق البحار، أو بين السماء والأرض، أو على لافتة كبيرة توضع على رصيف أحد شوارعها الجديدة، المهم أنها ستشيد.
صدَّقت الأغلبية من البسطاء تلك الوعود، فكان المزاج العام لصالح الرئيس عزيز، ولكن ما كادت أن تمر فترة من الزمن حتى تأكد الكثير من أولئك بأن الرئيس ليس بالرئيس القوي، وبأن تهديد رموز الفساد لم يكن تهديدا، وأن الزيارات الشعبية قد توقفت، وأن العدالة لم توزع، وأن الناس قد ساقها الجوع والعطش فرادى وجماعات إلى القصر الرئاسي، وإلى ظل واجهة البنك المركزي، والذي يُقال بأن خزائنه لم تعد قادرة على استقبال المزيد من العملات الصعبة لكثرة ما اختزنت منها.
صُدِم الكثير من المواطنين في الرئيس عزيز، وجاء الربيع العربي ليمنحهم أملا في إمكانية ترحيل هذا الرئيس الذي وعدهم فأخلفهم، ولذلك فقد اتجه المزاج العام إلى المعارضة التي رفعت في وقت متأخر شعار الرحيل.
وشهدت مهرجانات واعتصامات المعارضة المطالبة بالرحيل إقبالا شعبيا غير مسبوق، ولكن المعارضة لم تستطع أن تستغل الفرصة التي أتيحت لها، بل بالعكس، فقد صدمت وخذلت الجماهير التي زحفت إلى مهرجاناتها، فما كان من تلك الجماهير إلا أن تركت المعارضة تردد وحدها ـ وبصوت مبحوح ـ كلمة الرحيل.
المهم أن الأغلبية من المواطنين أصبحت على قناعة كاملة بأن موريتانيا الجديدة لن تظهر مع الرئيس الحالي، وأن هذا الرئيس غير قادر على إجراء الانتخابات في موعدها. كما أنها أيضا أصبحت على قناعة كاملة بأن المعارضة أكثر عجزا وضعفا من أن تفرض الرحيل.
لم يكن أمام الأغلبية من المواطنين، وفي وضعية كهذه، إلا أن تنتظر خيارا ثالثا، فجاءت مبادرة مسعود، فاتجه المزاج العام إليها. ويكفي كدليل على ذلك، أن نشير إلى بيان تكتل الأئمة والعلماء المنشور يوم أمس، والذي دعا إلى ضرورة أن يأخذ الجيش مسافة واحدة من الجميع، كما طالب بضرورة إجراء حوار وطني شامل . فأن يبارك العلامة حمدا ولد التاه بيانا كهذا، فذلك يعني بأن الكل قد أصبح يستشعر عمق الأزمة، هذا إن لم يكن هذا البيان قد تم إصداره بتوجيه من الرئيس عزيز، وفي هذه الحالة فإننا سنكون أمام تغير جوهري في موقف الرئيس، قد يعلن عنه في خطاب رمضان، وبمباركة من العلماء الذين سيُحسب لهم هذا التغير في موقف الرئيس، وذلك حتى لا يستثمره الرئيس مسعود لصالح حزبه وكتلته الناشئة.
ولقد أعلن الرئيس مسعود بأن داعمي مبادرته سينظمون مهرجانا شعبيا في 23 من الشهر الجاري، ولا شك بأن الإقبال على المهرجان سيكون كبيرا، وسيعكس المزاج العام للمواطنين، إن تمت التعبئة له بشكل جيد.
ولكن تبقى أسئلة: فهل سيتمكن الرئيس مسعود من استثمار ذلك الحشد القادم في فرض مبادرته؟ وهل سيستغل الفرصة المتاحة له الآن؟ وهل سيركب المزاج العام ويقوده إلى ما فيه مصلحة البلاد والعباد أم أنه سيظل متفرجا حتى ينحرف عنه المزاج العام كما انحرف من قبل عن الرئيس وعن المنسقية؟
حفظ الله موريتانيا..