شهدت بعضُ البلدانِ العربيةِ ثوراتٍ اصطلح على تَسْمِيَّتِهَا "بالرَّبِيعِ العَرَبِيِّ"،ربيعٌ غَلَبَ على لونِ خُضْرَتِهِ لونُ الـدَّمِ الذي يستحيلُ معه التَّمَتُّعُ بما يتيحه الربيع من مناظر تَخْلِبُ الألباب ،وتبقىَ عالقةً في الذهنِ نتيجةً لجمالها لِتَحِلَّ مَحَلَّهَا صُوَّرُ تشييعِ القتلى التي تطالعنا بها القنواتُ التلفزيونيةُ بشكلٍ يومي، فاستحكمتِ الشَّحْنَاءُ و تَقَضَّبَتْ عُرَى الإِبْقَاءِ.
تجربة خاضتها ولا تزال بعضُ البلدانِ العربيةِ الشقيقة.وتفرق الشارع العربي حيالها فَرَائِقَ بَـدَدًا، ربيع من محاسنه أنه حَتَّمَ على بعضِ السياسيين الذين سَلِمُوا من سيولهِ الجارفةِ إعادة النظر في تعاملهم مع شعوبهم ،لأنَّ الشعوب أصبحت تعي واجباتها وتطالب بحقوقها المشروعة.
حقوق كانت إلى وقت قريب ضَرْبًا من الخيالِ, لكن وحسب وجهة نظري فإنَّ السلطات الموريتانية تعاملت بسخاءٍ مع تلك المطالب ،قد تكون لحاجةٍ في نفسها تَمَثَّلَ ذلك في مَنْحِ تراخيصَ بالعشراتِ لأحزابٍ سياسيةٍ في ساحةٍ قد لا تتسع لتلك الأحزاب التي ناهزت عتبة المائة ،بالرغم من هرولة بعضِ تلك الأحزابِ وهي في مُهُـودِهَا إلى التَّخَنْدُقِ في صفوفِ الحزبِ الحاكم وكأنَّ ذلك هو الغرضُ الذي طلبوا من اجله الترخيصَ، أو رُخِّصَ لهم من اجلهِ، فرَاضُوا القِــيَّمَ و هاضُوا الأدبـيـات.
وفي ظِلِّ النكساتِ المتلاحقةِ للأحزاب السياسية، وتوالي الطعناتِ من الخلفِ في الجسدِ الحزبي من لَدُنْ بعضِ المنتسبين لتلك الأحزاب متناسين بذلك أن قُصُورَ النُّخْوَةِ لا يسكنها إلا النُّبَلاَءُ، ولا يمتطي صَهْوَةَ الشرفِ إلاَّ فرسانُ الشَّهَامَةِ، لِئَنَّ نِبْرَاسَ مملكتهِ منارةِ الإخلاصِ و سماؤها تملؤها نجومُ التَّفاني، وأنهـارها منبعها التضحيةُ، لذلك كانت العهودُ جبالٌ رواسي، وظَلَّتْ ينابيعُ الوُعُودِ شُهْـــدٌ وسَلْسَبِيلٌ لظمأى الطريقِ الوَعِـر، لكن وللأسف لم يبالي الرَّحالةُ السياسيينَ بتلك العهودِ متناسين أنَّ من يُسرعونَ إليه ليس من أوصلهم لتلك الكراسي التي باعُوها في سوقِ النِّخَاسَةِ السياسيةِ، فلم يحصدوا من بيعتهم سِوَى السَّـدَمِ والسَّـقمِ.
كما تَمَّتْ مكافأتهم بقانون جريءٍ ومُهِمِّ يجب تثمينه ألا وهو " قانون تحريم التِّرحال السياسي" ،في هذه الحالة ما هو مصير الأحزاب القديمة؟. وما هي فرصُ الأحزاب الجديدة؟.،هل نشهد موت الأحزاب؟. ،أم نحن في فصل "ربيع الأحزاب"؟. بمعنى التَّجَدُّدِ والفعَّالِيَّةِ، والاستفادةِ من أخطاءِ الماضي وضخِّ دماءٍ جديدةٍ في الساحةِ السياسيةِ.
لأنه من حقهم كمواطنين أن ينشئوا أحزابا سياسية، وأن يكون لهم عنوان وبرنامج وأفكار، وأن يطمحوا للوصول إلى الحكم والجلوس بأدبٍ على الكراسي كغيرهم من الفائزين بشرفٍ، فيكون منهم الرئيس، والوزير، والنائب، ومن على شاكلتهم كل ما يُطْلَبُ من هؤلاءِ هو أن يحترموا القانون، وأن لا يفكروا في التزوير، أو مباشرته، وأن لا يطمحوا إلى الصعودِ على أكتافِ المُعَذَّبِينَ في الأرضِ لِيَرْتَوُوا من دُمُوعِهِمْ ويَشْبَعُوا من لُحُومِهِمْ، وأن يعبروا مَمَرَّا واحدًا ووَحِيدًا إلى السلطةِ هو صُنْدُوقُ الاقتراع، من اقـتنع بهذا قيل له أهلًا وسهلاً بك في نادي الأحزاب السياسية في الواقعِ وليسَ على الورقِ طبعًا أليسَ الأمرُ سَهْلاً؟.
ويكون أسهل لو تؤسَّسُ الأحزابُ في بلادنا بالِإخْطَارِ وليسَ بالمشوارِ، فنفعل كما يفعلون في الديمقراطياتِ العريقةِ بعيدًا عن أكداسِ الوثائقِ وعنترياتِ الإدارةِ، وبغير صَكِّ غفرانٍ نتسلمه من وزارةِ الداخليةِ، بعد أن نُقَـدِّمَ اعترافاتنا، وتَنْظُرَ هي في ماضينا ومستقبلنا وصمتنا وكلامنا وما يبدُو على مُحَيَّانَا وما يختلج في صدورنا.
في المقابل أليس من الملاحظ تفاني بعض الأحزاب وتكريس جهودها لخدمة أجندات دولية وعدم مبالاتها بالشؤون الداخلية، كما أن بعضها انحرف عن العمل الحزبي واختار بدلا منه أن يصبح جمعية أو هيئة خيرية رغم أن ذلك يتنافى مع الرسالة التي جاء من أجلها ليصبح دولة موازية تدور في الغالب حيث دارت الدولة الأم، كما يمكننا القول أنه أصبحت لدينا أحزابٌ غير قادرةٍ على قراءةِ المرحلةِ، مِمَّا يجعلها تصبح منغلقة على ذاتها، ولا تفرز سوى تلك الصِّراعاتِ الداخليةِ المتعلقة بالزعامات، وكأننا لم نعد في إطار أحزابٍ سياسيةٍ، ولكن في إطار ما يسمى بمقاولاتٍ تقليديةٍ، نتيجة " ضعفِ أثرِ القوانينِ على مستوى تغييرِ البنيةِ الحزبيةِ ".
ويَظْهَرُ ذلك جَلِـيًّا كون بعض الأحزاب ما زالت تتوفر على قياداتٍ قديمةٍ وشائخةٍ، مما يُبَرِّرُ صدور هذا الكَمِّ الهائلِ من التراخيصِ للأحزاب السياسية التي يعتقد البعض أنها لن تؤدي سوى إلي البلبلةِ، فالمواطنُ الموريتاني لا يستطيع أن يحصيها أو يذكر أسماءها فكيف له بالتَّعَمُّقِ في برامجها والاختيارِ منها، وبما أنَّ الأعناقَ تَشْرَئِبُّ للانتخاباتِ البلديةِ والبرلمانيةِ المقبلة، فهل ستأتي تلك الانتخابات المرتقبة بقياداتٍ جديدةٍ أم سَتُجَدِّدُ لقياداتٍ قديمةٍ؟. مَنْ يَدْرِي.
ولكن المهم في رأينا أنَّ القياداتِ القادمةِ هي منذ اليوم في مواجهةِ تحدياتٍ مصيريةٍ هائلةٍ لا تستطيع أن تواجهها بالعقليةِ نفسها التي حكمتِ الأداءَ في السنواتِ الماضيةِ والتي بَكَّهَا المواطنُ تَبْكِيتاً، " فَلِكُلِّ زمانٍ دولةٌ ورجالٌ "، وما كان يُعْمَلُ به سابقاً قد لا يَصْلُحُ العمل به اليوم، ليبقى السؤال المطروحُ ما الذي سوف تقدمه تلك الأحزاب وما المطلوبُ منها لتنجحَ؟.
على الأحزابِ الجديدةِ أن تَخُطَّ لنفسها مساراً يختلفُ عن مَثيلاتِها السابقة وتقوم بتأسيسِ كياناتٍ تحترم عقول الناس أولاً، وأن تبتعد كُلَّ البعدِ عنِ الوعودِ الخياليةِ والتي لا تَهُمُّ المواطنَ البسيطَ الذي يبحث عن مقوماتِ الحياة، ـ بعد أن ناءَ بتلك المواعيدِ العُرْقُوبِيَّةِ أحقابًا ـ.، و تعمل على تقسيم الأدوار بين أعضائها، وتُبلورَ فكرة العمل المؤسساتي القائم على رُوحِ الفريقِ، وتبتعد عن اختزالِ الحزبِ في شخصٍ واحدٍ و يتسنىَّ ذلك " بتفعيلِ مبدأ التشاوُرِ"، كما أنَّ عليها تقديم مصلحة البلادِ والعبادِ أوَّلاً وأن تراهن على اللهِ ثم الشعبِ وليس على دُوَّلِ الجوارِ أو الدُّوَّلِ الغربيةِ.
ويجبُ أن تعمل على استقطاب النُّخَبِ من المجتمع وأصحاب الفكرِ العالي الذين كَرَّسُوا حياتهم وما زالوا لخدمة الوطن والمواطن، وأن يجعلوا حاجزاً بينهم وبين أصحابِ المصالحِ الشخصيةِ والفكرِ الضَّيِّقِ، كما أتمنىَّ أن تكونَ هناك هيئةٌ عليا تشرف وتراقب على عمل الأحزاب، وتحرص على ضرورة انعقاد الجمعيات العمومية في وقتها، و أن تُـنْشَئَ لِجَانٌ شبابيةٌ تأخذ زمام الأمورِ في المستقبلِ القريبِ بإذنِ اللهِ.
لِنَتَأَكَّـدَ أنَّ ما تشهده الساحةُ السياسيةُ الموريتانيةُ " رَبـِيعُ أحزابٍ "، لا " تَـشْتِيتٌ لِلرَّأيِ العَامِّ السِّيَّاسيِ" لِحَاجَةٍ في نفسِ من رَخَّصَ لتلك الأحزابِ.