في العام 1938 م وُلد المرحوم محمد حبيب ولد سيدي محمد ولد محمد ولد بكار ولد أعمر بمنطقة الگبْلَه و نشأ و درَسَ و تربَّـى بين أخواله من قبيلَتَـيْ تندغَه و لعْلب في منطقتي أترارزة و أمَكْرزْ ( نواكشوط لاحقاً ) و مع نُعومة أظافِرِه ضرَبَ في الأرض سعياً للكسب الحلال فيمَّمَ السنغال أرضَ التَّكرور و بالتحديد مدينة كيص و بدأ ممارسة التجارة هناك ومالبِثَ أن أصبح من كبار التجار فيها لِما يتحلّى به من صدقٍ و أمانةٍ و ذكاء و حسن معاملات و معرفة تامة بالمجال فكسب ثقة أصحاب المصانع و كبار الموّردين و بعد فترة و مع مطلع ستينات القرن الماضي قرَّر زيارة الأهل في ولاية لعصابة صِلَةً لِرَحمِه و تمهيداً لرحلته التاريخية و هجرته إليهم و التي كان لها مابعدها حيث زارهم مرَّتين متعهداً لهم بالعودة إليهم و المُكوثَ بينهم . يُقال أنه قبل زيارتهم كان يفكر في الرحيل إليهم و بعد تلك الزيارة قرر مباشرةً أن يهاجر إليهم لأن هناك ظروف وعوامل كانت تُملي عليه إتخاذ ذلك القرار الصعب …… و بعد عودته لوالدته و أخواته و مجتمعه الذي تربى فيه بدأ التخطيط للرحلة الثالثة و الأصعب حيث بدأ بالترتيب لذلك مع المقربين منه و بعد ذلك أخبر الجميع ليقع ذلك كالصاعقة عليهم و لم يوافقوا لهم في البداية و أمتنعوا لكنه رحمه الله كان مُصِراً عليه رغم صعوبته عليه و عليهم و بعد جهدٍ كبير استطاع إقناعهم لتنْطَلِقَ الرحلة وتبدأَ الحكاية…
هِجرةٌ من أجل مُجتمع
ودَّع المرحوم بصعوبة أخوالَه و من ترعرع و شبَّ بينهم ولكن لم يكن وِداعاً أخيراً إذْ لم ينقطع عنهم وظلَّ يزورهم دائماً في طريق ذهابه وعودته من السنغال و كان بيته في كيفة قِبْلةً للكثير منهم من تجار و أساتذة وطُلَّاب و موَّظفين و كل من استدعته الظروف للإقامة في كيفه او زيارتها او حتى المرور بها فكان بعضُهم يُلقِّبُه سفير الترارزه في لعصابه ….. نعم ودعهم و كان يوماً قاسياً عليهم جميعاً …… أخذ والدتَه و أخواته رحم الله الجميع وبدَأ رحلتَه يمخَرُ العَبابَ ويقطعُ الفيافي و يعْبُرُ السهولَ و الوديان في أرضٍ لايعرف تضاريسها مُتوَجِّهاً إلى الشرق وتحديداً مضارب أهل محمد ولد بكار بمنطقة آمرش في ضواحي مدينة كيفه بولاية لعصابه و مع صعوبة الطريق أنذاك فلم يكن الإندماج داخل مجتمع جديد بعيداً كل البعد عن عاداتك أقل صعوبة من ذلك ولكن التوفيقَ و عنايةَ الله الذي ألْهمَهُ القرار كانا حاضران في كل تفاصيل الرحلة و مابعدها ….. أقام مع أهله و بين ظهرانيهم و بدأ بإتخاذ الخطوات العملية التي تجسِّدُ ذلك وكانَ وبِمعيِّةِ عمِّهِ و أبناء عمومته و رجال مجتمعه الآخرين رحم الله الجميع يسهر على مصالح الآهالي و تدبير شؤونهم ودائماً مايسعى لما ينفعُ الناسَ و يمكُثُ في الأرض وكان لايدِّخرُ جُهداً في سبيل تعزيز اللُّحمَة الإجتماعية
أندمج رحمه الله سريعاً في مجتمعات تلك المناطق و نسَجَ شبكة علاقات واسعة و طيِّبَة مع سُكَّانها و أخذَ نفس المسافة من الجميع و أصبح مِن أدرى الناس بجُغرافية و ديمُغرافية تلك المناطق و أنساب و تاريخ أهلها
وبعد استقراره هناك بَدَأ الإستثمارَ في مجال النقل مع الإحتفاظ ببعض نشاطاته التجارية في السنغال فقام بإقتناء مجموعة من السيارات على نُدْرتِها في ذلك الزمان ولم يكن ذلك الإستثمار إلا ظاهرياً إذْ أنَّ أغلب نشاط سياراته كان في الأعمال الخيرية وخدمة الأهل و الساكنة فكانت هي المُسعِفُ للمريض إلى المستشفى و الموَّصِّلُ للتلاميذ إلى المدارس و وسيلة نقل الكثير من الأسر في مواسم الترحال مِن و إلى المدينة ولم يقتصر ذلك على المحيط الإجتماعي فحسب و كانت أيضاً وسيلة نقل أغلب المُنمِّين من أهل المنطقة أثناء رحلات الصيف في البحث عن المراعي وفي فترات الإنتجاع و مُطاردة الغُيوم …… وفي سَعْيِه دائماً لمساعدة سكان تلك الربوع قام بتعليم مهنةِ السيَّاقَة و استخرج رُخَصْ قيادَة للكثير من شباب ورجال المنطقة و خاصةً شريحة لحراطين و الطبقات الهشة الأخرى الذين كانَ يحترِمُهم و يقدِّرهم و يُعاملهم معاملةً مُغايرة تماماً عمَّا كان يُعاملهم به جُلُّ أهل موريتانيا في تلك الحقبة و الحِقب السابقة .
و مع إنشاء الإتحادية الوطنية للنقل في منتصف الثمانينيات تولَّى رئاسَةَ أول مكتب لها على مستوى ولاية لعصابة فترةً من الزمن فأدارَهُ بنزاهةٍ و شفافية و بجدية و صرامة في سبيل حلْحلَةِ مشاكل الناقلين و العاملين في القطاع و كانوا يتوافدون عليه بأعدادٍ كبيرة في بيته و في جميع الأوقات و يستقبلهم بكل أريَحيِّة و رحابة صدر و بَذَلَ أنَذاك جُهوداً شخصية كبيرة مادية و معنوية في سبيل إصلاح قطاع النقل مُستغِلَّا تجربَته وعلاقاته الطيبَة مع المستثمرين في القطاع……مارَسَ رحمه الله السياسَةَ المحلية وكان قليل الكلام يُنصِتُ بإهتمام بالغ لمُحدِّثيهِ ولا يقاطِعَهُم و يَـنْظُر للأمور من زوايا عدة ولا يتسرَّعُ في اتخاذ القرارات و كان شديد الوفاء بِوُعودِه حريصاً على الإلتزام بمواقفه السياسية.
ومن ناحية طبعِهِ و سلوكه العام يمكن القول أنه أخذَ من الگبْلَه ماهوَّ إيجابي و محمود من صفات كالصبر و التأني و الكِيَّاسَة و أضاف لذلك ماهوَّ ايجابي من صفات و طِباع أهل الشرگ ….. فقد كان رحمه عاقلاً فطِناً حكيماً صبوراً على المصائب و نوائب الدهر محسناً كريماً خلوقاً يحب أهلَ الخير و العلماء و يحب أهل القرءان وكانَ قلبُه مُعلقاً بالمساجد و يعتادُها في الصفِّ الأوَّلِ و من توفيقه أنَّ الله جعلَ المسجد بجوار منزله وكان له الفضل في اختيار تلك القطعة الأرضية و الحصول عليها لبناء المسجد بها و مِن يومِها و بمعيةِ جماعة المسجد وهو يدبِّرُ شؤونه من ترميم و صيانة وتسديد للفواتير ولعلَّ من نافِلَةِ القول أنَّ له اليد الطُّولى في إعادة إعماره و تشييده من جديد حيث كان صاحب الفكرة بالمطالبة بذلك وبتوفيق الله تم ذلك و قد شهِدَ رحمه الله أغلب مراحل بناءه وكان سرورُه و غِبطَتُه بذلك لاتوصف وقد طلب من جماعة المسجد إقامة المُصلى المؤقت في بيته حتى يكتمل بناء المسجد وفعلاً تم ذلك حتى اختارَه اللهُ لجواره الكريم و المسجد في مراحله النهائية من البناء أرجو الله تعالى أن يكتُبَ له أجرَ كل صلاة أُقيمت فيه من بعده إلى يوم الدين …. كان رحمه الله لايُفوِّتُ حِلَقَ الذكر و المحاضرات ما استطاع إلى ذلك سبيلا وكان مُعجباً بجماعة الدعوة و التبليغ وغالباً ما يحضُر مؤتمرهم السنوي في كيفة.
كانَ رحمه الله مُقلاً خفيف الظِّلِّ يغْلُبُ عليه التواضُع و نُكران الذات إذا رأيتَه في منزله حسِبْتَهُ ضيفاً مُنتبذاً مكاناً قصياً لاينهَرُ سائلاً و لاينهى أحداً يختار من الملابس أخفَّها و أقلَّها تطريزاً و زرْكشَه و يُفضِّلُ من الفِراشِ أقلّه نُعومَة….. لايُغتابُ بَشرٌ في مجلسه ليس من أهل اللغوِ ولاهوَّ فُضوليًّا ، عضًّا بالنواجِذِ على الكثير من السُّنَنِ النبوية ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر أنَّهُ لم يَعِبْ طعاماً قَطْ إذا اشتهاهُ أكلَه و إذا لم يشتَهِه تركه كان من الكاظمين الغيظَ و العافين عن الناس و يدفعُ دائماً بالتي هي أحسن و يتغافَلُ لبقاءِ الْوِدْ كان رحمه الله يمثل المُسلم الحق الذي سَلِمَ الناسُ من لسانِه و يدِه وظلَّ على ذلك الحال حتـى أسلَمَ الروح لِبارئِها عصر الإثنين الموافق ليوم 28 دجمبر من سنة 2020 رحل في هدوءٍ تامٍ و سكينة مستبشِراً وَضَّاءَ الوجه باسِمَ الثغر بلا أنينٍ ولا غرْغَرةٍ و وُوريَّ الثرى مساء نفس اليوم بمدفن بولنوار في كيفه بجوار والدتِهِ التي أحسن بُـرورَها و بجوار صالحِي أهلِهِ أسألُ اللهَ أن يرحمهم جميعاً و أن يجعلَ الجنَّةَ موْعِداً بيننا و بينَهم ويرحم جميع الموتى المسلمين ….. وفي النهاية أرجو الله أن أكونَ قد وُفِّقتُ في التطرق لبعض مراحل حياته المليئة بالإيثار و القيم الإنسانية الفاضلة و سيبقى عزاؤنا دائماً و أبدًا أنه عمِل بدُنياه لآخِرَته و الحمد لله أولاً و أخيراً وله الأمرُ من قبلُ و من بعد.
كتَبَهُ المصطفى ولد محمد حبيب
بتاريخ : 28 دجمبر 2023
الدوحة - قطر