سقط نبأ تحطم طائرة الوفد الموريتاني على المحيط الأطلسي كالصاعقة في كل أنحاء البلاد، فهي المرة الأولى التي تتعرض فيها لكارثة مماثلة يقضي فيها كل هذا العدد من المسؤولين في ظروف على هذه الدرجة من المأساوية، كما أن الأمر يتعلق أيضا بالاختفاء المفاجئ لرأس هرم السلطة في فترة اضطراب وعدم استقرار، وهو رجل يمكن للبعض أن يختلف معه، غير أن خصاله الشخصية وقدراته كقائد عسكري ورجل دولة، تجعله محل احترام الجميع وتقديره.
تمثل أول رد فعل لسلطات نواكشوط في إيفاد أكثر طياريها احترافا وأكثر الضباط قربا من رئيس الوزراء الراحل، إلى السنغال للمشاركة في التحقيق في الحادث. لم يكن الوقت بالنسبة للمقدم كادير يسمح بالتفكير في أن الأمر قد يكون مناورة لإبعاده عن العاصمة في وقت يجري فيه حسم خلافة رجل لم يجف دمه بعد، فحزم حقائبه بالسرعة المطلوبة إلى العاصمة السنغالية التي لم يكن لديها الكثير لتقدمه له للإجابة على ما جاء يحمله من تساؤلات ستظل مطروحة لعقود وربما لأكثر.
كان التحقيق الأولي الذي عاد به كادير فقيرا لدرجة أنه لا يجيب على أي من الأسئلة المطروحة، فالسنغاليون لا يعرفون أكثر من أنه "تم تخمين مكان الحادث" وأن "صيادا من قرية "انغور" قال بأنه سمع صوتا يشبه صوت الانفجار" أو أن "آخر كلام مسجل لملاح الطائرة هي كلمات: لقد حدت عن الطريق"! أما السؤال الذي طرحه عليهم حول ما إذا كانت الأجهزة على متن الطائرة تؤدي وظيفتها بشكل اعتيادي أم لا؟ فقد ظل من دون إجابة.
فهل انتقل السر إلى الأبد مع الطائرة إلى أعماق المحيط؟ لم يكن هذا السؤال مطروحا للسلطات في نواكشوط على الأقل ليلة عودة المقدم كادير -30 مايو- بل كان المهم هو معرفة ما إذا كان ولد محمد السالك سيغتنم الفرصة لاستعادة نفوذه داخل اللجنة؟ أم ما إذا كان "الجناح الليبي" سيعزز صفوفه بالداعمين للخروج السريع من حرب الصحراء وينجح في الاستيلاء على السلطة؟ كان واضحا أن الأخلاقية التي حكمت انقلاب 6 ابريل –وحتى 10 يوليو- في طريقها إلى الاختفاء وأن السياسة قد أفسدت العسكر فحولتهم إلى طلاب سلطة ولو في فترة الحداد على رفاقهم في السلاح!
ينقل مؤلف كتاب "موريتانيا المعاصرة: شهادات ووثائق" العديد من الشهادات لشخصيات فاعلة في السلطة حينها، بعضها يثير شكوكا حول الحادثة بينما يعتبرها بعضهم الآخر قضاء وقدرا. وبشكل خاص يجزم الأمين العام للرئاسة حينها محمد سعيد ولد همدي بأنه "لم تكن هناك مؤامرة لقتل بوسيف ولا يوجد تفكير في قتل جماعي من ذلك القبيل وكل ما هنالك هو فرحة أو عدم أسف أو اغتنام لفرصة من قبل الفريق الحاكم لغياب بوسيف" .
يستند ولد همدي –مثل غيره من النافين لوجود مؤامرة- إلى فكرة عدم وجود "تفكير في قتل جماعي من ذلك القبيل"، رغم أنها لا تصمد أمام حقيقة أن من خططوا لانقلاب 10 يوليو قد ناقشوا بشكل جدي احتمال أن ينفذوا انقلابهم بطريقة دموية حتى يضمنوا القضاء على أية إمكانية لعودة النظام المدني، وأنهم ناقشوا على وجه الخصوص ضرورة تصفية ضباط كبار من بينهم بوسيف وكادير لكي يضمنوا نجاح الانقلاب وذلك حسب شهادة الرئيس السابق هيداله. كما لا تصمد هذه الفكرة أمام احتمال أن تكون جهة أجنبية هي من حكمت بالإعدام على رئيس الوزراء لرفضه الخضوع لضغوطها ولقطع الطريق أمام المشروع الذي ينفذه.
وإذا لم تكن هناك مؤامرة للقضاء على رئيس الوزراء، فما الذي يفسر أن يذهب رئيس حكومة –بل رئيس دولة في الواقع- في زيارة للمشاركة في قمة إقليمية من دون أن يرافقه أي عضو من أعضاء حكومته؟ وما الذي يفسر بالذات اعتذار وزير خارجيته الموجود في نواكشوط عن السفر معه؟ وما الذي يمنع سلطات نواكشوط من الأمر بإجراء تحقيق جدي في كارثة بهذا الحجم؟ وما الذي منعها أصلا من المشاركة في عمليات البحث عن الطائرة المفقودة؟ ولماذا بدل الاهتمام بمعرفة حقيقة ما جرى، لم تجد ما تفعله سوى التدافع لخلافة رئيسها الذي فقد حياته في ظروف مأساوية؟
إذا لم تكن هناك مؤامرة، ما الذي يفسر تقبل سلطات نواكشوط بسهولة لفرضية "الغرق في المحيط" لطائرة خرجت من مصنعها قبل أقل من سنة ولم تحلق أكثر من 500 ساعة ويقودها طيار محترف (قائد القوات الجوية) خبر الأجواء الموريتانية المعروفة بسوء أحوالها الجوية؟ ألا يثير الأمر ولو شكوكا بسيطة –خصوصا وأن الكارثة أودت بحياة 15 مواطنا من ضمنهم رئيس الوزراء- كان عليها أن تدفع السلطات إلى إجراء أي تحقيق من أي نوع كان بدل الاكتفاء بملاحظة أن بعض القرى في جزر الرأس الأخضر نكست فيها الأعلام حدادا على الكارثة الأليمة؟
بالنسبة للعقيد كادير ليس هناك أدنى شك في وجود مؤامرة، وفي أن من نفذوها وقفوا عن وعي في وجه القيام بأي تحقيق لتحديد المسؤوليات. وفي مذكرات له لم تكتمل، سجل جملة ملاحظات يعتقد أنها كافية لإثبات أن بوسيف والوفد المرافق له قد تمت تصفيتهم:
• في الرابع والعشرين مايو 1979، أدلى الأمين العام لجبهة البوليساريو بتصريح جاء فيه: "نأمل أن تقدر سلطات نواكشوط النتائج الكارثية لتغيبهم عن طرابلس يوم 26 مايو من أجل مناقشة اتفاق الانسحاب من تيرس الغربية الموقع من طرف وزير الخارجية الموريتاني"؛
• في نفس اليوم اكتشفت أجهزة الأمن الوطني على شاطئ المحيط قرب نواكشوط، رادار مراقبة يديره أربعة ليبيين، وكانت التحقيقات بشأنهم متواصلة؛
• اتصل بي (أي كادير) هاتفيا وزير الداخلية الرائد تيام الحاج الليلة قبل سفر بوسيف أي السبت 26 مايو الساعة 12 و30 دقيقة، وطلب مني أن أقول لرئيس الوزراء أن يلغي سفره؛
• لم يكن وزير الخارجية أحمدو ولد عبد الله (أخو قائد الأركان العقيد أحمدو ولد عبد الله) ضمن الوفد المرافق، رغم أنه رافقه إلى المغرب وفرنسا واسبانيا وكيغالي؛
• عند الإعلان عن الكارثة الجوية التي حلت برئيس الوزراء ومرافقيه، لم تقم وزارة الدفاع ولا قيادة الأركان باتخاذ أية إجراءات لتحريك آليات جوية أو برية أو بحرية للمشاركة في البحث عن الطائرة المفقودة، رغم أنها طائرة عسكرية (طائرة بيفالو دخلت الخدمة قبل أقل من سنة وقامت بأقل من 500 ساعة طيران) وأن طاقمها عسكري (ملاحها هو النقيب انجاي قائد القوات الجوية)؛
• تم إيفادي (كادير) إلى دكار لجمع المعلومات المتعلقة بالكارثة، وخلال غيابي عن نواكشوط باشرت جماعة هيداله، أحمدو ولد عبد الله، ومحمد محمود ولد أحمد لولي، إنهاء عملها التصفوي المخجل؛
• بعد عودتي من دكار كان الأمر قد حسم، ولم يلفت التقرير الذي حملته عن مهمتي اهتمام اللجنة التي كان عليها -على الأقل لأسباب إنسانية- أن توليه بعض الاهتمام؛
• تم الشروع بسرعة كبيرة في إجراءات خلافة المرحوم أحمد ولد بوسيف من دون احترام لا لذكرى الفقيد ولا للبعثات الأجنبية التي جاءت لتقديم التعازي؛
• على مستوى التوجه السياسي، صرح رئيس الوزراء الجديد بحضوري أنه يعتبر البوليساريو حليفا موضوعيا لموريتانيا؛
• بعد حصول الكارثة ووصول المجموعة الحالية للسلطة، لم تتحدث البوليساريو عن اتفاق طرابلس ولا عن تهديد موريتانيا.
لا تكمن أهمية وجهة نظر كادير في أنه طيار محترف أشرف على التحقيق الأولي الذي جرى في السنغال، بل أيضا في كونه عاش في قلب الأحداث وكان مستهدفا باعتباره الساعد الأيمن لبوسيف. والشيء الأكثر بروزا في وثيقته هو قراءته للمشهد الوطني من خلال ارتباطه الوثيق بالضغوط شبه الإقليمية المتعلقة بالنزاع حول الصحراء الغربية، لذلك تحتل ملاحظاته حول تهديدات الأمين العام للبوليساريو واعتقال العملاء الليبيين، مركز الصدارة فيما اعتبره أسبابا وجيهة للاعتقاد بأن رئيس الوزراء تمت تصفيته.
وستكشف الأحداث اللاحقة أن تهديد البوليساريو ب "نتائج كارثية" ينصرف إلى التراجع عن وقف إطلاق النار الذي كانت قد أعلنته من جانب واحد بعيد انقلاب 10 يوليو، وهو ما نفذته يوم 12 يوليو 1979 عبر هجومها المباغت على "تشله" لتقتل الكثيرين وتعتقل 71 أسيرا من بينهم حاكم المقاطعة ولن تفرج عنهم إلا يوم 29 يوليو بعد تدخل منظمة الوحدة الإفريقية وقبل أيام من توقيع اتفاقية الجزائر. كما أن الجزائريين أنفسهم لم يقطعوا الصلة ببوسيف إذ كانوا قد أوفدوا إليه ضابطين ساميين اجتمع بهما بعيد قدومهما إلى نواكشوط ليلة 22 مايو في زيارة تمت إحاطتها بالكثير من السرية.
أما طبيعة مهمة عملاء الاستخبارات الليبية في موريتانيا، فقد توقف التحقيق بشأنها واختفى الاهتمام بالموضوع من أجندة السلطة الجديدة، رغم أنه من اللافت للانتباه أن تكتشف خلية استخبارات ليبية في نواكشوط مجهزة بآليات للتصنت والمراقبة في ظرفية توجد فيها خلافات قوية بين القذافي وبوسيف وتتم تصفية هذا الأخير بعد ذلك بثلاثة أيام! هل كان هؤلاء في رحلة استجمام على شاطئ المحيط الأطلسي؟ هل كانوا يمثلون الخلية الليبية الوحيدة على التراب الموريتاني؟ أم كانوا جزء من فريق وصل موريتانيا بهدف تنفيذ مهمة خاصة؟
يكشف إغلاق التحقيق بشأن هذه الخلية حجم النفوذ الليبي داخل السلطة الجديدة، كما أنه بالإضافة إلى الامتناع عن فتح تحقيق حول أسباب تحطم الطائرة، يفضح إرادة تلك السلطات –أو على الأقل جزئها الفاعل- في حجب المعلومات المتعلقة بمختلف الملابسات التي اكتنفت الحادث المأساوي. فهل يمكن أن يعني ذلك أن الليبيين كانوا متورطين في عملية الطائرة وتمكنوا –عبر الجناح الموالي لهم في نواكشوط- من إخفاء معالم الجريمة؟ أم أنه ليس هناك ما يؤكد فرضية التورط الليبي في تصفية رئيس الوزراء؟
يتواصل..
اقلام حرة