دأبت الأنظمة السياسية المتعاقبة علي اتخاذ المؤسسة القضائية مطية لمآربها وغاياتها بل وتدجينها إلي ابعد الحدود, وتكفي نظرة متأنية إلي تاريخ هذه المؤسسة لندرك حجم التدخل والتوجيه لمصلحة السلطة التنفيذية, فقد استهدف القضاة والمحامون وكتاب العدل وغيرهم من مفاصل القضاء, حني تحول القضاء ببطء إلي مؤسسة تنفيذية الحظوة فيها لمن له ظهير من الحكومة أو تجار النفوذ أما التعيين والترسيم بل وحني الاكتتاب كلها كانت محاصصة لكل طرف منها نصيب. وقد انعكس ذالك جليا علي هيبة القضاء وثقة المتقاضين في أحكامه وأكثر من ذالك ثقة المستثمرين والأجانب في مبدأ احترامنا للقانون .
واقــع القـــضاة
لعلي التمس العذر للقضاة فالقضاء كممارسة غيره كوظيفة، فممارسة القضاء باعتباره حاجة إنسانية تسعي الدولة الي إشباعها لأنها تمثل جزء من سيادتها يشكل بالنسبة لقضاتنا – الا ما رحم ربي - فرصة لإثبات الولاء أو سبيلا للثراء فالأحكام والقرارات وكل ما يصدر عن القضاء مكرس في سبيل الولاء والثراء أما الحكم لله والنيابة عنه ومجالس الخصام التي تحضرها الملائكة فهو ما تبقي في ذهن القاضي من الفلسفة اليونانية القديمة أما الحساب والعقاب والجنة والنار فهو في مطوية تحضره إذا أدركه الغرق . أما القضاء الوظيفي فهو الواقع المهني والسلم التراتبي الذي أنشاه بعض القضاة خوفا علي مناصبهم ومراكزهم وشبكة العلاقات التي نسجوها مع المتخاصمين وهكذا سرعان ما انتظم سواد من القضاة في لوبيات القصر التي تتحكم اليوم في مفاصل السلطة القضائية ’ وصًيروها ساحة لإدارة شؤونهم وأصبح لاشيء يعلو علي صوت الرشوة والمحاباة والانتفاع بخصومات العامة واستدرار الجيوب وعبادة آلهة الشهوة والحكم وتقديم القرابين من دماء الناس وحرياتهم وأعراضهم .
وان قلة من المحرومين من هذا السلوك لم تسعهم المحاكم فالقي بهم في دهاليز الوزارة من العباد والخيرين وكانت المرحلة تتطلب شعارا يبرر الخطوة ويضفي لها نكهة تغطي روائح تصفية الحسابات والحقد الذي يحرك بعض النفوس المريضة المتحكمة في مفاصل المؤسسة المريضة فاستعار كبير القضاة شعار الفساد ومحاربة المفسدين وألبسهم إياه وهي لعمري لغة يفقهها سيد القصر الاول بل تصادف في نفسه هوى مفتتحا بذالك حقبة القضاء التحكمي حيث استمر التحكم في القضاة باعتبارهم موظفين خاضعين لإرادة السلطة التنفيذية مجبرين خوفا أو طمعا علي إصدار الأحكام والقرارات وفق ما تريده السلطة التنفيذية ’ ومن يحاول النيل من فقه السلطة ويحاول إثبات نفسه فيصدر الأحكام أو القرارات بقناعته لن يشفع له حكم دوود فيجد نفسه مفصولا او منكلا به فنحن في زمن يقول رئيس المجلس الاعلي للقضاء عاقبوا زيد فتجتهد العقول علي العقاب السادي الدفين في النفس الامارة و ما محمد الأمين ولد محمد المختار عنا ببعيد ولو أدرك هذا الرئيس أن العقاب مرحلة أخيرة لا بد لها من التحقيق والتدقيق ثم الأدلة والبراهين ثم الشفافية والإنصاف والتمكين من دفع الحجة كل ذالك حق مكفول قبل قطع الأرزاق وهتك الأعراض .
لقد سعت الحكومات في مختلف أزمنة القحط الحكومي الي تعيين قضاة ضعيفين علي رأس مختلف المحاكم لتكون أكثر تحكم فيهم وبالتالي توجيه قناعاتهم الي أهدافها الاستهدافية ؟ وقد خلق ذالك حالة من التناقض والارتباك بين إرادة الإصلاح المنشودة في الزمان والمكان وإرادة القمع السياسي والاجتماعي و حتي الاقتصادي التي استوطنت العقل السياسي في هذا البلد المغلوب علي أمره .
واقــع المــحامـين
لا يختلف اثنان علي أهمية دور المحامي في قيام العدل وتبليغ الحجة وإنارة المحاكم ولذالك أهتم العلماء وأصحاب الرأي والقلم وأبدعوا في تحديد العلاقة بين المحامي والقاضي وبين المحامي وزبونه باعتباره وكيل خصومة حتى أنهم وضعوا 12 شرطا من شروط صحة المحامي ( انظر ملخص الأحكام للمحامي محمد محمد بن عامر تخريج القاضي محمد الأمين ولد محمد بيب ) وهي أمور لا ينبغي الحديث عنها اليوم لبعد المحامي عندنا منها مجتمعة ومتفرقة وهو شيء يدعو للأسف خاصة أن هيئة المحامين أو سلكهم لم تطله منذ عقود رياح الإصلاح فأصبح مستودعا عفنًا تماما مثل ما يليق بموقعه المنزوي بين مسجد مهجور إن لم اقل ضرار ومراحيض نتنة لا تخفي عذِرة الآدمي أسفل المحكمة العليا إن أبقت لغيرها أسفلا فالموقع إذًا هو من سيحدد من هو المحامي ؟..
وحيث أن القانون رقم 95 – 24 بتاريخ 19/07/1995 حدد شروط الانتساب إلي الهيئة في الجنسية والعمر والشهادة والأخلاق والتدريب فان هذا القانون الأساسي لمهنة المحاماة في موريتانيا يعد أسوء نص قانوني عرفته البشرية منذ حمورابي إلي اليوم ، فقد تضمن مثلا عبارتي الانتساب للمهنة والانتساب للتدريب ولكل من الوضعيتين شروط مما يدل علي أنهما مختلفتين كما تضمن إعفاء فئة معينة من التدريب وهو احد شروط الانتساب لكنه لم يعفيها من الشرط رقم 5 أي أن يكون المحامي حاصلا علي شهادة الكفاءة لممارسة مهنة المحاماة وبالتالي يكون ولوجها للمهنة باطل إذ لا يستند إلي نص قانوني فمجرد إعفاءها من التدريب لا يعفيها من باقي الشروط المطلوبة للانتساب .
غير إن الإحداث التي شهدتها الهيئة منذ عهد النقيب بتاح فرضت واقعا مختلفا علي مستوي الممارسة والقيم ؛ فمن حيث الممارسة دفعت سياسة الحزب الجمهوري آنذاك بعشرات الدكاترة أو طالبي الدكتورا إلي الانتساب للهيئة لمهمة محددة هي دعم ترشح النقيب ماء العينين ضد بتاح ولم يراعي في ذالك الانتساب السياسي الكفاءة و لا حتى نوع الشهادة التي بدا أن كثيرا منها تم تزويره بليل بل إن نافذين في تلك الفترة دفعوا أموالا لقاء تسهيل الانتساب فكان المنتسبين عند مستوي الطموح إذ كانت القيم الأخلاقية والنزاهة وروح المسؤولية غائبة في سلوكهم إلا من رحم ربي فهم مثل مرتزقة القي بها في ساحة حرب وتفشي ذالك الداء ليطال الفئة المهنية التي بدأت تشعر بالتقزز من إغراق حقل المحاماة بأسراب من الفاشلين شكلوا وقود حرب بين جيلين من المحامين وهكذا أصبحت المهنة الشريفة وسيلة للكسب غير المشروع ولو علي حساب الأخلاق والدين والمبادئ ، وخالط أصابها دخن فلا تكاد تمييز الطيب الورع من غيره لكثرة عملهم بالسمسرة بل إن بعضهم يمارس مهنة بيع قضايا موكليهم إذ لا تقبل متابعة المحامي بتهمة السمسرة ( المادة 44 من قانون المهنة ) وتلك عادة سرية درج عليها اغلب الوافدين الجدد متخفين وراء قاعدة الالتزام بالعناية ولم يدركوا أن العناية التي يتشدق بها سوادهم دون علم ولا دراية هي تلك العناية التي تفرض علي المحامي أن يبذل في مهمته الأمانة و النزاهة والصدق وهي أمور لا مناط لها بالمحامي عندنا حتى أصبحت مندوبة في اختياره وليست شرط في صحته واني لآسف لبعض الكتاب من المتقدمين حيث اعتبروا أن المحامي لا يكون محاميا إلا إذا كان عارفا بالشرع مصادره وقواعده ؛ وتلك صفات تستحيل في حق المحامي عندنا فالغاية القصوي من كل عمل دنيوي هي الطمأنينة والعيش الكريم وهما ركنان توافرا لقلة من المحامين وتاهت البقية بحثا عن سر الحرف فكانت مرحلة التيه والضياع تقتضي التكسب ولو بالشبهات .
ولما كانت المذكرات و العرائض وغيرها من المكتوبات هي سلاح المحامي تعززه النصوص والقواعد القانونية والقدرة علي إيصال الحجة فكان لابد من مقابلة ذالك بالقراءة والتثبت والفهم من طرف القضاة وأقلامهم (كتاب الضبط ) , غير أن الواقع غير الذي يجب أن يكون مما ذكرنا فنجاح فئة من المحظوظين في امتلاك القصور والسيارات ومختلف الأموال منقولها وعقارها لم يكن بجودة إنتاجهم ولا بقدرة كتاباتهم علي صنع قناعة القاضي بل بوسائل أخري أكثر تأثيرا واقل حاجة إلى النصوص وتوظيفها حتى أن بعض عرائض المحظوظين تتضمن الاستناد إلي مواد لا علاقة لها بالواقعة المنشورة كأن يتحدث عن سماع الشهود بمواد المعارضة مثلا ورغم ذالك فيُقضي له علي الوجه الذي أراد واستمر العمل بذالك ولا يزال حتى أصبح اغلب المحامين عاطل عن العمل فهجر بعضهم المهنة باحثا في أرض الله وامتهن بعضهم الوساطة بالحرام أما البقية الباقية فلا هي هاجرت ولا هي وجدت فرصة لامتهان العمل والتكسب بالحرام فأرغمت علي ملء طرقات القصر وأزقته تكتب العرائض في الطرقات علي شكل وصفات الممرضين ودون مرجع سلاحها حيثيات وحيثيات وخلاصة عملها ( ولهذه الأسباب وعملا ....) ومصدر عملها مدونتا الإجراءات المدنية والتجارية والإدارية , والجنائية و تجهل تماما باقي النصوص القانونية والمدونات المعمول بها وتلك صورة للقحط الذي تعانيه هذه الفئة .
إن المتتبع لعمل هذه الفئة والتي أريد لها أن تشقي سبيلا للعيش أو قبل الموت يدرك بدون كبير عناء أن القضاء الذي هو ملجأ المظلومين وسند الضعفاء ووجه لاستخلاف الإنسان في الأرض أُريد له رغما عنه أن يكون غير ذالك فالقاضي والمحامي وكاتب الضبط والمنفذ أبطال مسرحية عبثية يشقي فيها الملتجأ للقضاء شقاء سيزيف وهو يحمل صخرته الأبدية كلما قارب وصول القمة هبطت به إلي القاع ليرفعها مرة أخري وهكذا وَيسعد فيها من رزقه الله من باب ضيق وُوكل بعذابه ملائكة الأرض والسماء وبين السعادة والشقاء يقف المحامي ورفيقيه الأبديين كاتب الضبط والعدل المنفذ إلي رحلة الخلود علي حساب القاضي والمتقاضي وأحيانا حساب القيم والمبادئ والأخلاق ... يتواصل
اقلام