جاءت الموجة الثانية من هجوم نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز على رجال الأعمال في توقيت مثير للاستغراب والجدل.
فالرجل خرج للتو من واحدة أصعب مراحل حياته حتى الآن (الرصاصة الصديقة(، وما إن تماثل الرئيس للشفاء حتى وجه “رصاص الضرائب الصديقة” إلى مجموعة من رجال الأعمال، وكان النصيب الأكبر، أو الأكثر إثارة للفت الانتباه، من نصيب ابن عم الرئيس رجل الأعمال محمد ولد بوعماتو، صاحب أكبر إمبراطورية مالية خصوصية في تاريخ البلاد.
سارعت أحزاب في المعارضة (التكتل، التقدم، حاتم..) والموالاة (كتلة الوطن) إلى إدانة ما سمته “الحملة الظالمة ضد ولد بوعماتو” و”استهدافه” ليأسه من إصلاح النظام ولأنه قرر الابتعاد عنه.
وتسرب أن اجتماعا قبليا عقدته مجموعة الرئيس لبحث تداعيات الخلاف بين ابنيها (الرئيس ورجل الأعمال)، وبدأ أزيز الإثارة في صالونات نواكشوط، فالمخزن التابع لمصنع إسمنت بوعماتو أغلق بشمع الضرائب، والمليارات تنتظر الجباية من “ماتال” و”بنك موريتانيا العام”، والحبل على الغارب.
وإذا صدقت الأرقام التي أعلنت كحجم ضرائب على مجموعة بوعماتو – أي 5 مليارات أوقية- فإن دفع ولد بوعماتو لهذا المبلغ سنويا عن أعماله كفيل بتحويله إلى نموذج لسرعة الإفقار.
لكن ما الذي يجري فعلا؟ وما الذي حدث حتى تحول ابنا العم المتحالفان سابقا إلى عدوين لذوذين يتراشقان بالبيض الثقيل في وضح النهار.
لا توجد مصادر موثوقة يمكن الاعتماد عليها، وكل ما هنالك هو الشائعات والتسريبات التي يجد الموريتانيون تحويلها إلى روايات محبوكة.
قطعا لا دخان من دون نار، ويبدو أن الدخان تعالى في هذه القضية دون أن يتبين أحد حتى الآن مكان لسان اللهب، الذي يكاد يحرق مرحلة من تاريخ المال الخصوصي في البلاد.
خرج ولد بوعماتو من “رمال الفقر” نحو الثراء السريع بشكل لافت، وبنى إمبراطورية مالية وتجارية كبيرة، وأفلت من مشنقة ولد الطايع، الذي صالح الرجل على أساس إشراك بعض مقربيه في ثمرات ذلك الثراء الذي ظهر يعدو بسرعة ضوئية في عالم البزنس.
بفترة وجيزة قبل انقلاب 3 أغسطس 2005، تأكد أن معاوية ولد الطايع قال لبعض أقاربه إنه سوف يدفع ولد بوعماتو إلى الإفلاس وسيحول قبيلته إلى “متسولين”.. وكان ذلك على مرأى ومسمع من حارس “أمين” نقل الخبر الثمين إلى حيث يوجد ثمنه.
رحل ولد الطايع، وجاء الجنرال عزيز وكان التحالف بينه وبين ولد بوعماتو في قمة أوجه إبان “مهرجان عرفات” حيث “غمز” ولد بوعماتو من قناة حساسة اجتماعيا، قائلا إن كل القبائل لم تسلم منهم، في إشارة فهمها البعض على أنها موجهة لرجال أعمال قبيلة “أسماسيد”، التي تسيدت البلد ماليا واجتماعيا طوال عقدين من الزمن هي فترة حكم ابنها.
وبعد فترة وجيزة على تسلمه السلطة، كان ولد عبد العزيز يوشح ابن عمه ولد بوعماتو بوسام الشرف الوطني، فيما وضع منافسيه وراء القضبان.
بعدها بأيام قلائل “رحل” ولد بوعماتو على متن طائرته الخاصة ولم يعد.. استقر بمراكش.. وأغلقت شركة “طيران أرويز” بشكل مفاجئ، وبدأت الأقاويل تروج عن خلافات بين الرجلين..
ظل ولد بوعماتو ملتزما الصمت، فيما تحدث ولد عبد العزيز في “مهرجان انوذيبو”، عن رجال الأعمال الذين كانوا يستولون على الأموال العمومية بشكل غير قانوني، مشيرا إلى أن ذاك شكل الخلاف بينه وبينهم.. وفهم على مستوى الرأي العام أن حديث الرئيس قصد به ولد بوعماتو.
فشلت ثورة منسقية المعارضة الموريتانية، وتعافى الرئيس من “الرصاص الصديق”، وعاد بخطاب أشد شراسة ضد خصومه.
وشيئا فشيئا، بدأت التسريبات عن دور نسائي، وشبكة مومسات، وحسناوات علاقات عامة، وجوازات سفر دبلوماسية، ولغط كثير يربط مصطفى ولد الشافعي بولد بوعماتو بشائعات عن محاولة تصفية ولد عبد العزيز.
ومرة أخرى ازداد الدخان كثافة ولا تزال الحقيقية مطمورة تحت رماد، مع مجيء “الضرائب الصديقة”، وكأن النظام وصل مرحلة اللاعودة في علاقته مع رجل الأعمال الكتوم.
يزخر تاريخ الأنظمة الموريتانية بـ”ديناصورات” المال الذين يتم إفلاسهم على مواقف سياسية، ويتحولون إلى عبرة من “العهد السيبري”.. (حابة في عهد ولد هيداله، وبمبا ولد سيدي بادي في عهد ولد الطايع)، والآن يبدو أن الدور على بوعماتو ورجال أعمال حقبة ولد الطايع.
ما الذي يجري فعلا؟
لا مصادر عالية تبت في هذا الإطار، لكن من شبه المؤكد ان الخلافين بين عزيز وابن عمه بوعماتو، لم يكن خلافا سياسيا، فقد كان الأخير من أكبر داعمي الأول سياسيا وماليا، في أكثر الفترات صعوبة إبان انقلاب 6 أغسطس 2008، وانتخابات 18 يوليو 2009.
وما دمنا في التكهنات والتسريبات فلا شيء قطعي سوي أن منشأ الخلاف لم يكن سياسيا.
وهكذا ينحصر هذا الخلاف في نقطة رئيسية هي “المال”، فهل كان قرار ولد عبد العزيز “خلق” طبقته الخاصة من رجال الأعمال، وفق دعاوي المعارضة، هو السبب في هذه الأزمة، بعد أن ظهر لولد بوعماتو أن شريان المال العام من صفقات وامتيازات أصبح يصب في كفة واحدة هي “كفة الرعاة” الذين قرر الرئيس تحويلهم إلى رجال أعمال يصولون ويجولون في “منتزه البزنس الوطني”، وفق تعبير أحدهم، وهو ما أدى فعلا لتحول اجتماعي في مركز النفوذ داخل قبيلة الرئيس مع نمو طبقة جديدة من الشخصيات المالية؟
وهل “حرب الرئيس على الفساد” هي فعلا ما أثار “الديناصورات” المنقرضة، أو التي في طريقها للانقراض ماليا.. وجعلها تثور ضد الضرائب المستحقة للمواطن بعد أن كانت طوال عقود من الزمن هي “ضريبة” النجاح السياسي لأي نظام؟
يوحي المشهد المالي العمومي والخصوصي الحالي، وفي ظل إنشاء شركة طيران جديدة، وفتح بنوك جديدة، وشركات تأمين ومقاولة، وشركات تجارية هيمنت على التصدير والإيراد، وعلى قطاع سمسرة الجمركة، أن طبقة رجال الأعمال “القديمة” باتت خارج اللعبة المالية المحلية، وأن أمامها المزيد من “الاحتضار الصعب”، فالنظام على ما يبدو يمن عليها ب”الموت الرحيم”، ويبقى على “خيار الإفلاس بالقطارة” ليكون الأمر أشد إيلاما.
لكن ما الذي فعلا دفع النظام للتعجيل بإفقار ولد بوعماتو، وبأسلوب الضرائب الحاسم؟
ثمة رأيان، أحدهما يقول إن منع مجموعة ولد بوعماتو من ريع المال العام لم يحد من نمو هذه المجموعة بالشكل الذي كان متوقعا.. وبالتالي أصبح من الضروري مساندة مجهود الإفلاس بسيف الضرائب.
ويقول الرأي الثاني إن النظام شعر بخطورة بقاء ولد بوعماتو خارج دائرة الولاء، والسماح لتحالفاته الخارجية وخاصة علاقته بالمغرب، وبشخصيات إقليمية ودولية، بالتطور وهي العلاقات التي يمكن فعلا أن تشكل خطرا على رأس النظام، خاصة في ظل التدهور الحالي في العلاقات الثنائية مع المغرب.. وفي ظل قصة المومسات والحسناوات، والجوازات، والشافعي، والرصاص الخاطئ، وما قد يربط بين كل هذا من “خيوط كربونية” قوية.
لكن هناك رأي خارج كل ما يطرح، وهو الرأي القائل بأن كل هذه الجعجة أريد بها إحكام القبضة القبلية على الحكم، ففي واجهة العملة يوجد: الرئيس عزيز وبهاي ولد غده،، ومحسن ولد الحاج، وأفيل ولد اللهاه، وغيره من حديثي النعمة… وفي الواجهة الثانية للعملة.. يوجد ولد بوعماتو، واعل ولد محمد فال وأحمد ولد حمزة… وكأنما أريد بذكاء أن تسبح الموالاة بحمد طرف، وتنغمس المعارضة في محامد الطرف الآخر… وهكذا لا تعدو الأمور في النهاية حكاية طريفة.. وإن كانت الأمور بدأت تخرج عن حدود نظريات المؤامرة.. فسخف عقول العامة والطبقة السياسية الموريتانية لا يتطلب كل ذلك.
صحيفة "آش كاين"