يمتلك الرئيس السابق روح المخاطرة والمغامرة، وقد تعود في قراراته على المخاطرة، ومن المعروف أن المُخاطر إما أن يكسب كل شيء أو يخسر كل شيء، ومن النادر جدا أن يؤدي القرار المخاطر إلى نصف نجاح أو إلى نصف فشل، فإما النجاح التام أو الفشل التام.
ولا شك أن الرئيس السابق قد استفاد من روح المخاطرة في بداية حكمه، ولستُ بحاجة للتذكير ببعض المواقف الصعبة التي خاطر فيها وحقق مكاسب. وربما تكون تلك المكاسب هي التي جعلته يدمن على المخاطرة في سنته الأخيرة في السلطة، وحتى ومن بعد خروجه منها طمعا في تحقيق المزيد من المكاسب، وهو الشيء الذي لم يحصل، ففي هذه الفترة بدأت المخاطرة تأتي بنتائج عكسية تماما، وتُكبد الرئيس السابق خسائر كبيرة، حتى وإن لم يُقَدِّر حجم تلك الخسائر وخطورتها.
(1)
لقد حسم البيان الرئاسي الصادر في منتصف يناير من العام 2019، وفي وقت كان فيه الرئيس خارج البلاد، الجدل الذي كان دائرا حينها حول مسألة التمديد. ولقد أصبح واضحا منذ ذلك التاريخ أنه لابد من ترك السلطة بعد أشهر قليلة، فماذا كان يجب أن يفعله الرئيس السابق خلال تلك الأشهر المتبقية من حكمه؟
كان عليه أن يتصرف في تلك الفترة تصرف الرئيس المودع الذي سيترك السلطة بعد أشهر معدودة، وهو الشيء الذي يتطلب:
ـ تهدئة الأوضاع السياسية وخلق جو تصالحي مع الجميع، وخاصة مع المعارضة؛
ـ إنهاء بعض الخصومات والخلافات ذات الطابع الشخصي، وخاصة منها تلك المتعلقة بخصومات وخلافات مع بعض رجال الأعمال؛
ـ الأخذ بالشفافية في تسيير المال العام فيما تبقى من أشهر قليلة، ومحاولة تصحيح ما يمكن تصحيحه من اختلالات سابقة في هذا المجال.
على العكس من ذلك، وفي مخاطرة يصعب فهمها، قرر الرئيس السابق أن يعمق من حجم خلافاته مع المعارضة، وأن يُعَقد ملف رجال الأعمال أكثر، وأن يزيد من حجم الخروقات في تسييره للمال العام، وكأنه لن يغادر السلطة أبدا.
(2)
بعد الخروج من السلطة كانت المصلحة الخاصة للرئيس السابق تتطلب منه أن يبتعد بشكل كامل عن الأضواء، وأن ينسحب بهدوء من المشهد السياسي، وأن يتجنب في الوقت نفسه كل ما من شأنه أن يهز الثقة بصديقه محمد ولد الشيخ الغزواني والذي أصبح رئيسا للبلاد منذ فاتح أغسطس 2019.
لقد بينتُ في مقالات عديدة لعل من أهمها ورقة كاشفة تحت عنوان : " أي دور لولد عبد العزيز في المرحلة القادمة؟" أن الرئيس السابق سيخرج من السلطة بيدين فارغتين من أي ورقة ضاغطة يمكن أن يؤثر بها مستقبلا في مجريات الأمور، ولن تبقى لديه إلا ورقة واحدة وهي الورقة المتمثلة في علاقته القوية بصديقه الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، ولذا فقد كان عليه ـ ووفقا لمصلحته الخاصة ـ أن يحافظ على تلك العلاقة القوية، ولكنه بدلا من ذلك، وفي مخاطرة يصعب تفسيرها بالمنطق السليم، قرر أن يلقي بنفسه في دائرة الضوء، وأن يدخل في مواجهة مكشوفة مع صديقه الرئيس.
(3)
استمر الرئيس السابق في ارتكاب المزيد من الأخطاء، واستمر بعض من يرفعون شعار مناصرته بالدفع باسمه إلى واجهة الإعلام، مع محاولة تسويق الفكرة التي تقول إنه يتحكم في كل شيء من خارج السلطة، وظلت الأمور تسير في ذلك الاتجاه إلى أن قرر في نهاية المطاف أن يرتكب الخطأ القاتل أو المخاطرة القاتلة، والتي تمثلت في اجتماعه في آخر أسبوع من شهر نوفمبر 2019 بلجنة تسيير حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، وإصداره لبيان يمجد فيه العشرية، ويحدد فيه موعدا لمؤتمر الحزب القادم.
كان ذلك هو الخطأ القاتل الذي سرّع بالمواجهة بين الرئيسين، ذلك أنه وضع الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن يقبل بتحكم الرئيس السابق في شؤون البلاد من بعد مغادرته للسلطة، وذلك أمر لا يحتمل أن يقبل به رئيس منتخب، يدعمه الجيش، وتلتف حوله الأغلبية، وتهادنه المعارضة، وإما أن يثبت بأنه هو من يتحكم بالفعل في شؤون البلاد، وكان ذلك يقتضي كشف الغطاء عن الرئيس السابق، وإظهاره للرأي العام وللشعب وحيدا بلا أنصار وبلا داعمين في صفوف الأغلبية الحاكمة، وهو ما كان.
(4)
كان من المفترض أن يتعلم الرئيس السابق من الخطأ القاتل الذي ارتكبه ليلة اجتماعه باللجنة المؤقتة لتسيير حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، ولكن يبدو أنه لم يتعلم من ذلك الخطأ فقرر في السابع من إبريل 2021 أن يوجه رسالة إلى الشعب الموريتاني يدعوه فيها إلى الالتحاق بمشروعه السياسي الذي سيكون حزب الرباط الوطني من أجل الحقوق وبناء الأجيال هو واجهته.
إن هذه الدعوة تعني أن الرئيس السابق لا يريد أن تبقى المعركة معركة قانونية وقضائية فقط، بل يريدها أن تكون سياسية أيضا، ولاشك أن توسيع دائرة المعركة إلى المجال السياسي سيجلب للرئيس السابق المزيد من الخسائر والمشاكل التي كان في غنى عنها.
(5)
ربما يكون ما دفع الرئيس السابق إلى إصدار بيانه السياسي أنه قد تأكد من دخوله إلى السجن، فأراد تحويل المعركة من معركة قضائية إلى معركة سياسية، حتى يكون دخوله إلى السجن بسبب موقف سياسي، لا بسبب تهم تتعلق بالفساد. يمكنكم أن تلاحظوا أن الرئيس السابق لم يتحدث في رسالته الطويلة عن ملفه القضائي ولو بكلمة واحدة.
لا أظن أن هذه المحاولة ستنجح، وأقصى ما يمكن أن يحدث هو أن تتسع دائرة المعركة إلى الحد الذي سيستوجب استخدام الأسلحة السياسية بالإضافة إلى المسار القانوني.
إن رسالة الرئيس السابق تطرح العديد من الأسئلة لعل من أهمها :
ـ أين التركة السياسية لعقد كامل من الحكم، ولماذا لم يبق من تلك التركة إلا ثلاثة وزراء تفرقوا طرائق قددا، أحدهم اختفى ولاذ بالصمت، والآخر توقف عن التدوين، والثالث قرر أن ينشغل عن معارك الرئيس السابق بتشكيل اتحاد المرشحين السابقين للرئاسة؟
ـ هل يمكن للرئيس السابق أن يحقق بحزب مجهري فشل في الحصول على مستشار بلدي واحد ما لم يحققه خلال عقد كامل وهو يقود بلدا بكامله؟
ـ ألا يعلم الرئيس السابق أن بيانه السياسي سيعطي المزيد من المبررات للنخب السياسية لممارسة المزيد من الضغط على النظام الحاكم من أجل التعامل بشكل أكثر صرامة مع ملف العشرية؟
ـ ألا يمكن أن يؤدي هذا التحالف الجديد بين الرئيس السابق ورئيس حزب الرباط إلى فتح ملفات فساد جديدة: ملف قمامة نواكشوط مثلا؟
مهما تكن الإجابة على تلك الأسئلة، فإن الشيء المؤكد هو أن أسوأ قرار يمكن أن يخاطر به من يحمل سلة بيض، هو القرار المتعلق بإعلان حرب مفتوحة مع الجميع.
حفظ الله موريتانيا...
محمد الأمين ولد الفاضل
[email protected]