هذه صفحات من كتاب «ما بعد إسرائيل» الذى صدر مؤخراً.. للكاتب السياسى المصري أحمد المسلمانى. فى هذا الكتاب الذى نفدت طبعته الأولى فور صدوره، وتنشر "آراء حرة"
أحد فصوله، يتحدث الكاتب عن الدين والسياسة فى إسرائيل.
عن المتدينين اليهود الذين يريدون تطبيق الشريعة، ويرون أنه من لم يحكم بما أنزل الله فى التوراة هم حكام كافرون.
وهم من يرون أيضاً أن الموسيقى حرام، والغناء حرام، والفنون حرام، ووجه المرأة عورة، وصوت المرأة عورة، وحياة المرأة هى رحلة واحدة من المنزل إلى القبر.
وهم من ينتقدون نتنياهو كل يوم لأنه لا يطبق الشريعة ولا يُقيم الحدود من قطع يد السارق إلى جلد شارب الخمر إلى رجم الزانى.
ويرى الكاتب أن تطبيق «الشريعة اليهودية» فى إسرائيل سيدفع إسرائيل إلى المزيد من العداء للإسلام ولكنه سيدفع -فى الوقت ذاته- بإسرائيل إلى الهاوية.. سوف تشهد إسرائيل «ربيع الدين»، ولكنها ستشهد معه «خريف الدولة».
(1)
يصف الكاتب البريطانى اليهودى «ماثيو آنجل» إسرائيل بأنها تحوى قوماً.. شديدى التعصب وشديدى التديُّن، ولكنهم لا يعرفون الوصايا العشر.. وتذكر أغلب الإحصاءات أن (80%) من الإسرائيليين لا يعرفون الوصايا العشر.. وتقع الوصايا العشر فى اليهودية موقع الأركان الخمسة فى الإسلام من شهادتين وصلاة وزكاة وصوم وحج.
لقد تحالف الجهل مع ضيق الأفق.. لتتجاوز الأصولية اليهودية.. النظرية إلى جماعات وتنظيمات تمارس العنف ضد الفلسطينيين.. بل وضد الإسرائيليين أنفسهم. وإذا كان مائير كاهانا.. هو النموذج الأعلى، فإن جولد شتاين وإيجال عامير وعوفاديا يوسف.. نماذج بازغة وغيرها كثير.
أسس الحاخام «مائير كاهانا» حركة «كاخ» اليهودية المتطرِّفة بعد وصوله من الولايات المتحدة إلى إسرائيل عام 1971. ويرى «يهود شيرنزاك» أستاذ العلوم السياسية فى الجامعة العبرية، أن «كاهانا» وضع الأسس النظرية التى أسهمت فى ترعرع الإرهاب، وأن العنف أصبح جزءاً من العمل الأصولى بعد وصول «كاهانا» الذى يعد أخطر إرهابى فى إسرائيل.
وبالتوازى مع حركة «كاخ».. كان «كاهانا» قد أسس فى حى بروكلين فى نيويورك مؤسسة «هاتيكفا»، أى الأمل، وهى منظمة إرهابية أخرى.
ولم يكن ممكناً مع «كاهانا» الحوار، فهو يرى أن العرب «حفنة من القردة والخنازير»، والحل الوحيد لهم هو قتلهم جميعاً وتخليص البشرية منهم.
ولكن كاهانا لم يتمكن مما كان يدعو إليه، بل كانت يد الآخرين إليه أسرع مما توقّع وانتظر.. ففى نيويورك عام 1990، جرى قتل «مائير كاهانا» وجرى اتهام الشاب المصرى سيد نصير بارتكاب الحادث.
(2)
أَبَى «بنيامين مائير كاهانا» ابن «مائير كاهانا».. أن يترك رسالة والده الإرهابية، فقد شرع فى تأسيس منظمة جديدة تخليداً لوالده وهى منظمة «يعيش كاهانا» أو «كاهانا.. حىّ». وقد بلغ بهذه المنظمة التطرُّف إلى حد فرض حظر قانونى عليها فى إسرائيل، واعتبارها فى الولايات المتحدة منظمة إرهابية.
وقد عملت منظمة «يعيش كاهانا» بالتعاون مع «منظمة هاتيكفا» على الإعداد لعدد من الاغتيالات والتفجيرات فى الصفوف الفلسطينية والعربية. وكان «بنيامين كاهانا» هو الآخر أسرع خطى إلى الموت.. حيث تم قتله فى كمين له بإسرائيل فى نوفمبر عام 2001.
وعندما داهمت المباحث الأمريكية مقر منظمة «هاتيكفا» فى نيويورك فى أعقاب قتل «كاهانا الابن»، وجدت أكثر من 80 صندوقاً، وعدداً من أجهزة الكمبيوتر، وخزانة ملفات، والعديد من الصناديق البلاستيكية.. التى تخدم عملها الإرهابى.
وقد قيل إن المداهمة تمت بطلب من «شلومو بن عامى» وزير خارجية إسرائيل بعد أسبوع من مقتل «بنيامين كاهانا». وقد رحل «آل كاهانا».. تاركين وراءهم بقايا حركة «كاخ» ومنظمة «يعيش كاهانا» و«جبهة كاهانا» التى أُعلنت بين مقتل الأب وابنه فى عام 1996.. وهى تنظيم إرهابى يشمل المنظمتين معاً.. «كاخ» و«يعيش كاهانا».. بالإضافة إلى منظمة «هاتيكفا» الإرهابية، وتنظيم جديد اختفت آثاره بعد إعلانه.. باسم «بنيامين كاهانا.. حىّ».
(3)
لم يكن الفاصل طويلاً بين مقتل «آل كاهانا» وبزوغ «نجم» إرهابى جديد، فقد أصبح «باروخ جولد شتاين».. «كاهانا» جديداً، بمجرد انضمامه إلى الجماعات الأصولية المتطرفة. قام «جولد شتاين» بتنفيذ مذبحة الخليل عام 1994، التى راح ضحيتها 29 مصلياً فلسطينياً أثناء أدائهم الصلاة بالحرم الإبراهيمى.
ويلخص قول «جولد شتاين» فى فيلم تسجيلى أمريكى تم إنتاجه عام 1994، قبل المذبحة -خلاصة رؤيته- يقول: «هناك وقت للقتل ووقت للعلاج».. قاصداً وقتاً للقتل، وآخر لامتصاص الغضب والمناورة حتى مجزرة أخرى.
على الرغم من أن جريمة «باروخ جولد شتاين» تفتقد أى كفاءة أو شجاعة، فقد أطلق النار على أناس يؤدون الصلاة، فقد غدا قبره.. ضريحاً ومزاراً يشد إليه المتطرفون الرحال.. ويواصل أنصاره من خلاله مسيرته الإرهابية.
ويذكر بعض الدارسين أن أحد الكتب التى تروى سيرة حياة «جولد شتاين» كانت من الكتب المفضلة لـ«إيجال عامير».. الإرهابى الذى قتل «إسحق رابين» عام 1995، لأنه وقّع اتفاق سلام مع الفلسطينيين.
وتُعلق مجلة «لونوفيل أوبزرفاتور» الفرنسية (فبراير 1997) على ما جرى.. بأنه نوع من الأصولية المتواصلة.. فالإسرائيليون يعيشون تحت رحمة الأفعال المجنونة والمنحرفة التى يقوم بها المتطرفون.
فالذين قتلوا المصلين فى الخليل وقتلوا «رابين».. يرون فى مسيرة السلام خطيئة يجب إدانتها.
إنهم يقولون.. نحن نقتل من أجل خلاص إسرائيل، وكلهم أمضوا سنوات شبابهم منكبين على قراءة النصوص المقدّسة وينتمون إلى الحلقة المعروفة بـ«مجانين الله» لتجسد مثال التعصب.
(4)
لقد وصل الأمر إلى أن دعا بعض الحاخامات الجنود الإسرائيليين إلى عدم إطاعة أوامر قادتهم بالانسحاب من الضفة الغربية.. وقال أحدهم: على الجنود ألا يفعلوا ما يطلبه ضباطهم، بل حاخاماتهم.
وزاد الأمر.. حيث لم يكتف الحاخام المتطرف «عوفاديا يوسف» بما ذهب إليه الآخرون.. بل دعا إلى «قتل» كل من يخدش قدسية يوم السبت، وأما العرب فهم برأى الحاخام «حشرات سامة.. لن يقوم سلام معهم».. «إن الرب قد ندم على خلقه هؤلاء العرب من أبناء إسماعيل»!
وما أسهل أن يجد المرء توافقاً فى الخرافة والهوس الدينى بين رؤوس متعددة فى إسرائيل، بعضها لم يدخل معبداً فى حياته. فبينما كان «ناتان شارانسكى» رئيس حزب بعاليا -لليهود الروس- يحذر من تقسيم القدس، لأن من يفعل ذلك سيكون أول من يقسمها بعد ثلاثة آلاف سنة من تاريخ المدينة..
كان «آرييل شارون» يقف أمام أعضاء السلك الدبلوماسى الأوروبى ليقول: إن القدس عاصمة دولة إسرائيل منذ ثلاثة آلاف سنة بموجب وعد الله لإبراهيم. وأما «حركة أنصار الهيكل المقدس» فقد أعلنت نهاية العالم وحلول يوم القيامة!
(5)
لا تقع الأصولية اليهودية خارج النظام العام فى إسرائيل، فهى جزء من مؤسسات الدولة، وهى أساس فى التعليم والمعيشة.. من طعام وسكن ومواصلات. وللأصولية أحزاب وشركات.. حاخامات ووزراء، وهى وثيقة الصلة بـ«الليكود».. وموضع حساب وتقدير من اليسار.
وقد بات العلمانيون يخشون على أنفسهم وحياتهم من جراء المد الأصولى فى إسرائيل. ومن النادر أن يجد القارئ إحصاءات مستمرة عن عدد العلمانيين والمتدينين فى أى بلد مثلما يجد فى إسرائيل.
وعلى وجه العموم، فإن «تل أبيب» هى عاصمة العلمانية التى يتحصنون فيها ضد «القدس»، مقر الأصوليين. ويرى رجال الدين أن «تل أبيب» هى «سودوم جديدة».. مدينة الخطيئة والفاحشة التى حل غضب الرب عليها وجعل عاليها سافلها.
ويرى الأصوليون.. أنه بعد أن انتهوا من فرض آرائهم وفرغوا من أمر مدينة القدس، تحولوا إلى مدينة تل أبيب من أجل إعادتها إلى الصواب والصراط المستقيم.. حيث إن (90%) من سكانها علمانيون.
وتنقل مجلة «التايم» (يناير 1997) عن الروائى الإسرائيلى «يورام كانويك»: «لا أعرف من هو الطرف الذى يسير على طريق الفوز؟.. إنها الحرب بين الطرفين. وحسب استطلاع للرأى أُجرى فى تلك الأثناء.. كان (35%) من الذين أُخذت آراؤهم يعتقدون أن الانقسام ما بين المتشددين والعلمانيين سيقود إلى حرب أهلية».
ويعلق الروائى «كانويك»: «ربما كان التقسيم مفيداً، لكنه فى آخر مرة انقسم فيها اليهود على أنفسهم منذ عدة قرون، تلاشى نحو (10) قبائل فى المجهول».
ويخلص «إسرائيل شاحاك ونورتون ميتسفنسكى» فى دراستهما «الأصولية اليهودية فى إسرائيل»، التى شرحا فيها تيارات الأصولية وجذورها التاريخية.. إلى أن «الصورة العلمانية الديمقراطية الرائجة عن إسرائيل لدى الغرب ليست حقيقية، فالمجتمع الإسرائيلى منقسم إلى أبعد الحدود، والتيارات الدينية الأصولية منقسمة فيما بينها حول المعتقدات والعلاقة مع الآخر، وفى النظر إلى ضرورة قيام إسرائيل قبل مجىء المسيح المخلِّص، وفى ضرورة القضاء على المسيحية فى العالم الغربى».
(6)
إذا ما وسَّعنا الرؤية لتشمل الخلاف الدينى العلمانى.. لكانت الأمور أكثر تعقيداً.. إنه خلاف حول كل شىء.. إعلان الدولة، الدستور، مَن اليهودى؟، يوم السبت، المرأة، الزواج المختلط، الأطعمة والذبائح، الآثار والحفريات، حائط المبكى.. حتى الموت والدفن.
وفى هذه الشبكة الكثيفة للآراء والمعتقدات.. هناك علمانيون ومتدينون: علمانيون يمينيون، وعلمانيون يساريون، وعلمانيون شيوعيون.
وهناك متدينون متشددون (حريديون)، متدينون إصلاحيون، ومتدينون صهيونيون. وداخل المجتمع الحريدى المتشدد.. هناك حريديون ليتوانيون وحريديون حسيديون وحريديون شرقيون وحريديون منعزلون كلية عن الدولة.. وهناك أصوليون شرقيون وأصوليون غربيون.. وروس وأفارقة وآخرون. والحريديون (الحريديم).. معادون للحداثة وللقيم الغربية، ولهم مجتمعهم الخاص بهم.
وإلى جانب الأحزاب الدينية.. تعمل الجماعات الدينية بدأب شديد، وإن كانت لا تشارك فى الانتخابات البرلمانية.. وبعضها جماعات دينية تؤمن بالصهيونية.. مثل حركة «كاخ»، وحركة «ميماد»، وكتلة الإيمان «غوش أمونيم». وبعضها الآخر جماعات دينية لا تؤمن بالصهيونية.. مثل حركة «حراس المدينة»، وحركة «الطائفة الحسيدية»، وحركة «حباد الحسيدية».
إلى هنا يبلغ الإرهاق مداه من متابعة شئون الملحدين والمؤمنين، ومن فهم خريطة لا تثبت على حال، وأناس يرون الدين بألوان الطيف.
(7)
والمفارقة الكبرى هنا.. ما الذى جاء به الأصوليون اليهود.. إذا ما كانت الدولة كلها فكرة أصولية؟!
والمفارقة الشارحة لذلك.. أن الأصولية الدينية المحضة هى ضد إسرائيل، لأن إسرائيل جاءت ضد مشيئة الله حسب الاعتقاد اليهودى.. فلم يكن مطلوباً من المتدينين اليهود أن يذهبوا إلى فلسطين ويقيموا دولة إسرائيل.. فالله وحده هو المسئول عن ذلك، وما على اليهود إلا انتظار إرادته وأسبابه.
وأسباب الله فى ذلك إنما تكمن فى «يسوع المخلِّص».. المنتظر، الذى سيقوم ببناء مجد اليهود ويجمع شتاتهم من كل العالم.. ويقيم مملكة الله فى فلسطين.
ولما كان الأمر كذلك.. فإنه من الخطأ أن ينوب العبد فى الفعل عن الرب، أو يعجل الإنسان بالسياسة، ما أراد الله له الانتظار بالمشيئة.
وهنا يمكن أن نفهم أولئك المتدينين اليهود فى إسرائيل ممن يرون إسرائيل دولةً كافرةً، وأنها قامت ضد إرادة الله، وأنها من عمل القوم الفاسقين.
وكان على الصهيونية حين جاءت.. أن ترتكب هذه الخطيئة الدينية اليهودية، وأن تقيم هى الدولة بدلاً من المسيح الذى طال انتظاره. وبعد ذلك.. كان على «الصهيونية الدينية» أن تعمل على تأويل النصوص والتماس الأعذار.. وتقديم تفسير جديد يوفّق بين العقل والنقل.
لقد خرج أصحاب «الصهيونية الدينية» على رأى الدين الذى كان سائداً منذ دخول الرومان فلسطين وتشتيتهم لليهود فى القرن الأول قبل الميلاد.
لقد رأوا.. أن المسيح المخلّص هو اليهود أنفسهم، وأن عليهم أن يعملوا لبناء هيكلهم الثالث.. دون انتظار.