قرأت صدفة في أحد المواقع عصر يوم الخميس الماضي خبر اجتماع رئيس الجمهورية بالصحافيين وأن اللقاء يستهدف الصحافيين من مختلف الأجيال. واستغربت بالطبع أني استبعدت من هذا اللقاء كما استبعدت سالفا من اللجنة الإعلامية للمرشح غزواني رغم أني من أوائل الصحفيين وأول من أصدر بيان مساندة منشورا في الصحافة لترشيح الرئيس الحالي ولنبذ المأمورية الثالثة.
وتوجهت فورا- على غير عادتي- إلى الوزارة المشرفة على الإعلام لاستجلاء الخبر. وإذا بمن التقيتهم هناك لا يعرفون عن اللقاء الشيء الكثير. أخبروني أن تنسيقه مقتصر على الديوان وأن مستشارا يدعى "لمانة"- لم يهتدوا لاسمه الكامل- هو من يتولى ذلك- ولا أقول كبر ذلك.
ورأيت - للأمانة- وبعد أن عزم علي الأقارب والأصدقاء، أن أوافي جنابه بما تيسر من معلومات عن كاتب صحفي أنا هو لا يبدو أن السيد "لمانة" تعرف عليه ولا أن أحدا من شلة الأقارب والأصحاب من حوله أراد التذكير به.
ولا بأس أولا أن نذكر المنظمين دون الغوص في الخلفيات، أن هناك صحافة أخرى لم يتمسح أصحابها "بمساحيق التجميل" في القنصليات ولم يقارعوا أصحاب الأجندات الخارجية أنخابهم ولم تنغمس أقلامهم في الأدران في دهاليز الاستخبار بل ظلوا مستمسكين بطهر وشرف المهنة. وكان من الأنسب إشراكهم بتمثيل أوسع في لقاء السيد الرئيس.
وبما أن التغييب يفيد الإنكار والإنكار يجوٍّز المن، دعوني أتساءل:
من الذي تصدر أول دفعة موريتانية من حملة شهادة المتريز في الصحافة وعلوم الأخبار؟
ومن الذي حاور- في أول أو ثاني شهر من دخوله المهنة أواخر 1982- المثقف والمقاوم البارز والقامة الوطنية والفكرية، وزير خارجية فرنسا آن ذاك السيد اكلود شيصون ((Claude Cheysson حول الحرب العراقية الإيرانية واستدر منه تلك التصريحات والتأملات المستبصرة وتلك العبارات الرائقة التي أدلى بها للإذاعة؟
ومن الذي أدار في ذات الأسبوع أو الذي قبله أو بعده، تلك الطاولة المستديرة غير الاعتيادية حول الجليديات ما قبل 2.5 مليون سنة مع مجمع من العلماء من كل أقطار العالم التأموا في مدينة أطار لتدارس بعض الفرضيات العلمية من بينها فرضية اتصال منطقة آدرار في موريتانيا بمنطقة افلوريدا في الولايات المتحدة قبل انجراف القارات؟
ومن الذي قال عنه أحدهم (وهو الصحفي والدبلوماسي والوزير الداه ولد عبدي) أنه "الولد الخارق" في الإذاعة (l’enfant terrible de la Radio) ؟
ومن الذي أدار في أول بث تلفزيوني موريتاني حلقة برنامج "المجلة الثقافية" الرائعة، مع الكاتب والصحفي البارز والسياسي المخضرم أحمد باب ولد أحمد مسك حول إصدار له بعنوان "رسالة مفتوحة إلى النخب في العالم الثالث"، وبمشاركة الكاتب يوسف غي، ومدير المعهد العالي للبحث العلمي، الجِّيد ولد عبدي، ومدير مشروع التلفزيون آنذاك، الصحفي البارز والأستاذ إبراهيم ولد عبد الله ؟
تضافر سحر الشاشة ومستوى الحضور وشهرتهم وأسلوب الإثارة والتشويق ليجعلا من هذه الحلقة حدثا استثنائيا.
لقد أذهلت الجمهور واستنفرت الخفافيش والأفاعي وأفزعت بعض دوائر السلطة تماما كما كان سكان الفلوات يفزعون من السيارة أو الطائرة عند رؤيتها لأول مرة.
وعندما حُولت برسم العقاب إلى جريدة الشعب الفرنسية ككاتب للتحرير ثم كاتب عام للتحرير، من يمكن أن يكون أصدق شهادة من سيد أحمد غزالي، الوزير الأول الجزائري في الثمانينات؟
لما اطلع على نسخة من جريدة الشعب الفرنسية في إحدى زياراته للبلاد، علق قائلا: إن الشيء الوحيد الذي تغير في موريتانيا منذ زيارتي الأخيرة لها قبل ستة أشهر هو هذه الجريدة.
و قال جان اكلود اكلوتشكوف، ( (Jean Claude Klotchkaufمؤلف دليل جون أفريك "موريتانيا اليوم" مخاطبا الرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطايع أطال الله بقاءه، لما قابله في ختام جولة المعاينة والرصد التي قادتني وإياه في أغلب مناطق الوطن ذات الأهمية السياحية (ولم أكن حاضرا بالطبع)، قال: " كان أقصى ما ننتظره منكم هو مرافق سياحي وإذا بكم ترسلون معنا عالما متبحرا.
وأفرط غابرييل افرال (Gabriel Ferral) في الثناء عندما قارنني مع من لا سبيل لمقارنتي به: قاضي القضاة، والعالم الموسوعي، والشاعر المفلق، رجل الدنيا والآخرة، جدي من أمي محمد لمهاب ولد الطالب إميجن الذي عرفه الكاتب وأعجب به حين كان حاكم دائرة لبراكنة ووصفه في كتابه "طبل الرمال" (Le Tambour des Sables) بأنه ينبوع علم وأنه عالم الغرب الإسلامي كله.
قال افرال: "تعرفت خلال خدمتي كإداري في لبراكن ولعصاب على رجال أفذاذ يعدون من النوادر، وأنا سعيد اليوم باكتشاف أن الأحفاد ليسوا دونهم".
وممن قابلتهم من الكبار، العالم والباحث الكبير تيودور مونو (Théodore (Monod. رافقته إلى قلب الريشات وحاورته حول بداية قصته مع موريتانيا وأبحاثه في الصحراء واستجليت منه حقيقة ظاهرة قلب الريشات ومبعث اهتمامه بحوض تاودني إلى ما هنالك من المواضيع.
في اعتقادي أن تلك السفرة وما تخللها من أحاديث، ساعدت – شأنها شأن المقابلة مع غابرييل افرال- في انبعاث نوع من الحميمية سيثمر في ما بعد بإنشاء "رابطة أصدقاء موريتانيا".
ولما أدى الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك زيارته لموريتانيا في سبتمبر 1997 والتي أراد الرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطايع رعاه الله، أن يجعل منها زيارة منقطعة النظير، كنت أنا من كلف بإعداد المطوية التعريفية بالبلاد التي كان يقرأها في الطائرة هو وأعضاء وفده.
وكان الرئيس معاوية يحرص على أن أتولي الإشراف على النشرات الدعائية في الحملات الانتخابية المتتالية ولم يحدث فيما بلغني أن خاب ظنه بي، مثلما لم أخيِّب ظن محمد ولد عبد العزيز عندما توليت إدارة الصحافة المكتوبة في حملته الانتخابية الأولي.
فوق هذا كله وعلى مدى ثلاث سنوات، كنت أنا من يتولى، بالتناوب مع إسلم ولد محمد، المدير العام آنذاك، ثم بمفردي، كتابة البطاقة اليومية (le billet du Jour) أسفل العمود الأيسر في الصفحة الأولي من جريدة الشعب بالفرنسية. ولا أرى الكلام عن قيمتها إلا تحصيل حاصل.
كتبت افتتاحية العدد الخاص لجريدة الشعب بمناسبة 10 يوليو 1984، واعتبر بشهادة الجميع نقطة تحول في هذا اللون من الكتابة الصحفية بموريتانيا. وأسندت لي من يومئذ مهمة إعداد الافتتاحيات دون طلب مني ودون منازع.
أما الإخراج ووضع العناوين ومعالجة النصوص إلى غير ذلك من تقنيات سكرتارية التحرير، فقد كفتني شهادة سيد أحمد الغزالي مئونة الحديث عنها.
في مجال التحقيقات الصحفية، كان لي أن كلفت بإجراء تحقيق عن ولاية الحوض الشرقي رفقة الزميل سيدينا ولد إسلمو، رئيس تحرير الجريدة العربية.
سافرنا إلى هناك في سيارة أجرة يوم 16 ابريل 1989، وقضينا شهرا كاملا نطوف في الولاية بمقاطعاتها الست ومراكزها الإدارية الثلاثة وببلدياتها الريفية الرئيسية وأسواقها الموسمية.
كانت "كالعملاق النائم": ولاية قصية جدا، وشاسعة جدا، وذات تاريخ عريق جدا، وتراث موسيقي فريد، ومقدرات بشرية وزراعية وحيوانية كبيرة، ومع ذلك كانت متخلفة ومتقطعة الأوصال بحكم وعورة الطرق وأهلها فقراء وكانت كمن يدير ظهره للوطن و الوطن (الدولة) لا يبذل كبير عناء لجعلها تقبل إليه.
وحدهم سفيران (الساس ولد أقيق رحمه الله وحمود ولد أحمدو) ومستشار في سفارة (شيخنا ولد حمادي) ورئيس قطاع في اللجنة الدائمة للجنة العسكرية (المرحوم شيخنا ولد افاه ولد سيدن) هم، من بين مواليد الحوض الشرقي، من كانوا يتولون مناصب تذكر في الدولة. كان الشيخ العافية ولد محمد خون لا يزال قيد الاعتقال بعد تفتيش في شركة تسويق الأسماك، ولمرابط سيد محمود ولد الشيخ أحمد رحمه الله كان يتلقي العلاج في باريس من جروح بالغة في الرأس إثر حادث سير.
حاولت قدر الإمكان نقل هذه الحقائق والأحاسيس في الحلقات العشر التي نشرتها من هذا التحقيق، ولعي وفقت في ذلك إلى حد كبير- بل فوق اللزوم بنظر البعض.
وكان من "بركة" التحقيق ومن حسن عناية الرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطايع أن أخذت وضعية الولاية من ذلك التاريخ تتبدل بشكل جذري- من التهميش إلى الحضور ثم إلى التمكن، وصولا إلى الاستحواذ. وخير الأمور أوسطها.
v
لن أتطرق إلى المسئوليات التي تبوأتها سواء على مستوى الجريدة أو على مستوى وزارة الإعلام أو في وزارة السياحة. كانت تأتي متأخرة جدا كل مرة وسرعان ما تنقضي لأسباب لا علاقة لها بالأداء ولا سبيل للوقوف عليها لغير الخريتين في مدارج ألاستخبار.
إن أخطر ما أودى بالإدارة الموريتانية هو سقوط الحواجز التي يتعين إقامتها بين الإدارة والمخابرات.
فالمخابر عون للشرطة والشرطة عون للقضاء والقضاء سلطة مستقلة. ومن اخترع الشرطة السياسية هي الأنظمة الاستبدادية.
عندما تفسح أمام المخابر إمكانية التقلب في المناصب الإدارية وخاصة العليا منها، تستحيل العلاقة بين الكفاءة والمنصب وبين الأداء والمكافأة من طردية إلى عكسية ويطرد المخابرُ الموظفَ بسبب اطلاع المخابرين على قنوات توصيل المعلومات إلى مركز القرار وقدرتهم على التحكم فيها خاصة عندما تُعطل الإجراءات الإدارية كالمحاضر الموقعة والموثقة ومذكرات الاستفسار والإجابات عليها، ومنح علامة سنوية لكل موظف على أساس ملف إداري مضبوط.
ولا أسهل في غياب ذلك من تشكيل شبكات مخبرين من شتى قنوات توصيل المعلومات كل يقدم الخدمة للآخرين فلا يصل عن أحدهم ومن في دائرته إلا ما يراد. و تتشكل غرف دكناء لمعالجة المعلومات تُزوَّر فيها الأقوال وتُفبرك الأحداث ويُقلب البياض سوادا والسواد بياضا.
من يمكن أن يجزم بأن اختيار المشاركين في لقاء لرئيس الجمهورية مع الصحافيين لم يشب بشيء من هذه الممارسات؟
وما الذي يا ترى قد يكون أبطأ ب حمزة ولد سيدي حمود عن الحضور؟
لا أقول قولة الزمخشري:
"وأخرني دهري وقدم معشرا على أنهم لا يعلمون وأعلم"
بل أكتفي بإحالة من هناك - إذا كان من بينهم من لا تزال تشجيه الألحان- إلى كلمات رائعةِ عبد الحليم حافظ:
حبيبها .. لست وحدك ..حبيبها ..
حبيبها ... أنا
حبيبها أنا قبلك ...
وربما جئت بعدك ...
وربما كنت مثلـــــــــــــــك ..
حبيبها