قبل أيام بدأت الحرب القذرة بين فرنسا وإرهابيي "القاعدة" في شمال مالي، حرب فتح لها الانفصاليون "الأزواديون" الباب على مصراعيه، ليحترقوا بها قبل غيرهم، وهم الذين أعلنوا دولة مستقلة، قبل أن تطردهم "القاعدة" من مناطق نفوذهم ليتفرقوا"أيدي سبأ" بعضهم سلم سلاحه وملابسه للجيش الموريتاني، مقابل السماح له بمزاحمة الأطفال والنساء والمرضى على فتات المنظمات الدولية التي تتكفل بلاجئي مخيم "أمبرة" على الأراضي الموريتانية، وبعض "القادة" هرب على وجهه باحثا عن اللجوء السياسي في موريتانيا وغيرها من دول المنطقة، والبعض يكابر اليوم، معلنا استعداده لمساعدة حكومة مالي وحليفتها فرنسا، على استعادة الشمال المالي، وكأنهم ليسوا هم الذين حرقوا مالي كلها شمالا وجنوبا، عقوقا وتمردا وانفصالا، فأين دولتهم المزعومة..؟!!
وأين شجاعتهم وهم يتركون الآن شعب الشمال يموت بين المطرقة الفرنسية الرهيبة والسندان الإرهابي "القاعدي" الأسود..؟!! أم أن فرنسا هي من دفعتهم أصلا للانفصال والتمرد ليوفروا لها لاحقا بحماقاتهم فرصة لحماية "اليورانيوم" المالي ووضع اليد الفرنسية على خيرات "تاودنى"..؟!! إن الحرب الدائرة حاليا لا يمكن التكهن بمساراتها ونتائجها، غير أن تبعاتها الكبرى ستتحملها موريتانيا بدون شك، فهي صاحبة شريط رملي حدودي طويل مع مالي، ومعظم سكان شمال مالي، ومناطق التماس الحربية اليوم، لهم ارتباطات ثقافية وعرقية بالشعب الموريتاني تاريخيا ودينيا ، كما أن معظم قيادات القاعدة الميدانيين عسكريا وروحيا، هم من الموريتانيين، وأغلب التنظيمات المسلحة في شمال مالي (يختلط فيها الإرهابي بقاطع الطريق وتاجر المخدرات وأمير الحرب ومقاول التهريب والتزوير) تضم مسلحين موريتانيين، وأغلب اللاجئين الهاربين من جحيم الحرب لا قبلة لهم إلا الأراضي الموريتانية، التي لا يجدون صعوبة في دخولها والتكيف مع كل الظروف التي يجدونها فيها اقتصاديا واجتماعيا ومناخيا، فاللغات والسحنات والأسماء وطريقة الحياة والثقافات التقليدية متشابهة ومتقاربة إلى ابعد الحدود، خاصة مع وجود لاحمين أساسيين للمجموعات المالية والموريتانية، بل تقريبا لكل مجموعات شبه المنطقة، وهما اللغة العربية والدين الإسلامي الحنيف، لدرجة أن مدينة "تمبكتو" التي تضاف اليوم جغرافيا لدولة مالي، هي مدينة موريتانية (تاريخيا) بامتياز، ومكتباتها وتاريخها ناطقان بتلك الحقيقة، وحتى الطبيعة العرقية للسكان، كلها تنطق بموريتانية تلك المدينة وجها ويدا ولسانا. إن تلك الوضعية تخلق لموريتانيا مصاعب أمنية واقتصادية واجتماعية وحتى سياسية يجب النظر إليها بقلق بالغ، فلا أحد يمكنه التحكم في أفراد الجماعات المسلحة في مالي قبل أو بعد دخولهم للأراضي الموريتانية لاجئين أو متسللين، فقد يجعلون من موريتانيا قاعدة خلفية، متفرقين في مدنها وأراضيها الشاسعة، منتهزين أية فرصة يجدونها للعودة للسلاح، تهديدا لموريتانيا أولا، ثم لحلفائها الأفارقة والغربيين ثانيا، مستفيدين من قدرتهم على مخالطة المجتمع الموريتاني، غير المتحفظ فيما يتعلق بعلاقاته بالغرباء، خاصة من حملة الأسماء واللهجات العربية أو الإفريقية، والذين يظهرون بعضا من التدين مهما كان مستواه. وواقع الأمر- لنقلها بمرارة ولكن بالعقل لا بالعاطفة- أن الحرب الحالية هي حربنا، على الأقل شظايا وضحايا، وتأثيرات على مختلف الأصعدة هي حربنا لأنها بين عدوين تقليديين لبلادنا، وهما فرنسا و"القاعدة"، فالأولى (فرنسا) استعمرتنا وآذتنا عقودا طويلة، ولا تكف حتى اليوم عن التدخل في شؤوننا الداخلية، بمناسبة وبغير مناسبة، أما الثانية (القاعدة) فقد ضربتنا مرات عديدة، وذبحت أبناءنا من عسكريين ومدنيين بدم بارد، وروعت أبناء شعبنا وضيوفه سنوات طويلة، ولدينا ثأر في رقبة كل فرد من أفرادها، وبهذا المعنى فمن مصلحتنا – يقينا - أن يقتتل الطرفان (ليتهما اقتتلا بعيدا عن حدودنا) فالقاتل والمقتول منهما عدو مبين لنا ولمصالحنا الوطنية، وهي حربنا أيضا لأن التنظيمات المسلحة قد تعتقد أننا الحلقة الأضعف، فتحاول توريطنا في الحرب، عبر تسلل عناصرها إلى أراضينا، أو القيام بعمليات عسكرية ضد بعض مصالحنا في المناطق الحدودية، أو حتى في مدن العمق الموريتاني، وساعتها لا يمكن للجيش الموريتاني لعب دور المتفرج، وسيكون من واجبه الدفاع عن البلاد وحوزتها الترابية وسيادتها بأية طريقة متاحة، وهي حربنا أيضا سواء كنا في وضعية دفاع أو هجوم، فاتساع رقعة حدودنا مع مالي وقدرة "الإرهابيين" على اختراقها في أية لحظة، تجعلنا طرفا في الحرب الحالية- ومن لحظة اشتعالها- شئنا أم أبينا، ومهما كانت فداحة الثمن الذي سندفعه عندما ندخل الحرب، فإنه لامناص من القبول بأننا دخلناها قسريا، فهي على حدودنا، وشظاياها بدأت تؤثر علينا اقتصاديا وأمنيا واجتماعيا، علينا أن ندرك تلك الحقيقة، وندعم رجال جيشنا الوطني بكل ما نملك، مبتعدين عن التنقيص من شأنهم أو تثبيط عزائمهم، فالخوف من الحرب، و"التراشق" السياسي المحلي بين "الأغلبية" و"المعارضة"، لا يمنعان وقوع الحرب، فكل الدلائل توحي بأنه لا مفر لموريتانيا من دخول الحرب دفاعا عن أرضها، وحفاظا على مصالحها، وتحالفاتها الإقليمية والدولية، ومادامت الجزائر والمغرب تتحركان باتجاه الدعم "اللوجستي" لفرنسا في الحرب، وهما دولتان قويتان (بالمقارنة مع موريتانيا) وإحداهما ليست معنية بالحرب بشكل مباشر، فهل يمكن لنا وحدنا البقاء بعيدا عن التحالف الدولي، حتى لو قادته فرنسا المستعمرة المتغطرسة..؟!! وهل نملك قوة خارقة لمواجهة ضغوط أقنعت دول المنطقة كلها بدخول الحرب أو دعمها على الأقل علنا (أو تحت الطاولة)..؟!! إن بقاء "القاعدة" في الشمال المالي هو يقينا تهديد للكيان الموريتاني الهش، وفى لعبة المصالح لا مجال للرومانسية والعنتريات، فإذا كان تحالفنا مع فرنسا سيساعدنا على تطهير حدودنا مع الشمال المالي، ودحرجة برميل البارود "القاعدي" بعيدا عن حدودنا، فلنتحالف معها، خاصة وأنها تحظى بتعاطف دولي واسع النطاق، وتتحرك بدعم واضح من أوروبا، والولايات المتحدة، ومجلس الأمن، والأمم المتحدة، وإفريقيا، ودول المغرب العربي(الجزائر والمغرب)، فبأي صفة يمكن لموريتانيا التخلف عن هذا الركب، حتى لو لم تكن أهداف فرنسا لا تتجاوز - في واقع الأمر- حماية مصالحها الضيقة، والدفاع عن انسيابية نفوذها في المنطقة؟!!. "الإرهابيون" (بقاعدتهم وواقفتهم) أيضا لا يريدون إلا خطف الرهائن، لاستبدالهم بالمال الذي ينفقونه في شراء السلاح والمخدرات، وذبح الأبرياء وتفجير الأسواق والمدارس والمساجد، وإظهار الفساد في البر والبحر بما اكتسبت أيديهم من الأفكار الدموية الآثمة، والفهم الخاطئ للدين، والتقوقع بعيدا عن أية قيم إنسانية أو أخلاقية أو حضارية..!!..(من المؤسف أن بعض المغفلين يعتبر أن الحرب في شمال مالي هي بين الصليبيين والمسلمين وينظر لذلك ويدعو ل"الجهاد" ضد فرنسا بينما الواقع يقول إن طرفي الحرب لا خير فيهما للبلاد والعباد ويشكلان خطرا على الأمة الإسلامية كلها و"الجهاد" الحقيقي يجب أن يكون ضدهما معا). إنها حرب مرفوضة جملة وتفصيلا،مبتدء وختاما، ولكن ما دامت قد اشتعلت فليس من سبيل لتجنبها، فهي بين طرفين ظلاميين همجيين، يبحثان عن مصالحهما بأية طريقة متاحة، ومن مصلحتنا في موريتانيا التحالف مع أقوى الطرفين، وأكثرهما مصداقية دولية، بغض النظر عن أية مواقف عاطفية انطباعية عابرة. سيكون من السيئ الزج بجيشنا في الحرب، ففي ذلك تهور واضح، بالنظر إلى هشاشة بلدنا من الناحية "التسليحية" والاقتصادية، ولكن الأسوأ حقا هو أن نقف موقف المتفرج، فنترك حدودنا دون حماية، ولا نختار لأنفسنا موقفا وموقعا في الخرائط الإقليمية والدولية،أمنيا وسياسيا واستراتيجيا، لما بعد الحرب، فلنا مصالح ومواقف ومواقع تتطلب منا التضحية في سبيلها، والشجاعة حتى على اختيار أسوإ الاحتمالات القادمة، والتكيف مع ظروف الحرب الحالية، وما بعدها. إن الحرب ليست قرارا من ولد عبد العزيز وضباطه، وليس تجنبها مرتبطا بصراخ "معارضة" هنا أو "مشيخة" هناك، بقدر ما أنها قرار يفرض نفسه عادة، ويفرض تبعا لذلك مبرراته ومساراته وتبعاته، فهل نتقاعس عن الحرب إذا فرضت علينا، ووضعتنا كل الظروف أمام أمرها الواقع..؟!! نعم نحارب، ولكن ليس من أجل فرنسا أو مالي، ولا حبا فيهما، ولا دفاعا عن "القاعدة" أو تشفيا منها، وليس بإملاء من أحد،بل نحارب فقط إذا كانت الظروف تتطلب ذلك، دفاعا عن أرضنا وعرضنا وشعبنا وضيوفنا ومصالحنا وكياننا الوطني، وحتى لا يتخذ منا الإرهابيون بعد هزيمتهم(حائطا قصيرا) أو قاعدة خلفية للانقضاض علينا، وعلى جيراننا وحلفائنا.. لا للحرب..نعم للسيادة الوطنية، التي لن يضمنها، ولن يحارب من أجلها إلا رجال قواتنا المسلحة، الذين حاربوا في السابق، وحرقوا شمال مالي دون الاستعانة بأية قوة أجنبية، ونحن نثق في جيشنا سلما وحربا، ونقف معه مدافعا أومهاجما ولن نتخلى عنه أبدا، ولن تدفعنا التجاذبات السياسية المحلية (ولا حتى الماضي أو الحاضر الانقلابي لثلة قليلة من ضباط جيشنا الوطني) للتحامل على جنودنا الأبطال أو تثبيط عزائمهم، فهم المجن الذي به نحتمي من قوارع الحرب، ونعول عليه لصيانة أجواء السلام.