(1)كنت قد أخذت صورة جميلة على كنكوصة و جمالها، و تضاريسها الساحرة ، و البحيرة التي لا تنضب ، و الأشجار الضخمة ، و نمط السكان و الحياة ، أيام درست فيها الأخت خديجة بنت أحمد سالم في التسعينات ...
برمجت الرحلة بعجالة تجهيزات و أفكار و غادرت متأخرا في حدود العاشرة و النصف ، و ليس المكان ببعيد فهو يبعد عن كيفة حوالي 80 كلم ، في طريق حديثة النشأة ، لكن التموجات التي تنبئك بها اهتزازت السيارة تعرفك بالشهيرة ATTM ، فلا يغرنك البساط الأسود النظيف ، فسرعان ما سيصاب الطفح الجلدي و الحساسية الشديدة و ربما الدمامل .
تكثر على الطريق القرى و التجمعات ، و تكثر اللوحات المعلنة عن الامكنة ، و لقد عجبت من لوحات عديدة تعرف بأمكنة أسر و عشائر ، فقلت ربما كان ذلك من استعداد الناس للضيوف ، فهم لا يتخفون منهم ، رغم علمي أن ماضي السياسة القريب قد قسم المقسم و أكثر من الصراعات حتى داخل نفس الأسرة .
من كيفة حتى كنكوصة تمر بتجمعات شتى و مجتمعات شتى ، و ربما تكون الحداثة ولدت إنفراط عقد بعض المجتمعات ظاهريا ، و عملية بحث عن الأصول و الأعراق قد أكثرت من الأسماء و المسميات.
الجغرافيا هنا ساحرة بلا استثاء ، و البساط الأخضر الموشى بالأشجار من كل الأصناف يمتد من البداية حتى النهاية ، مع بعض التموجات الصخرية و الرملية التي تبين عن قممها باستحياء ، و برافقك عن يمنيك السهل السحيق المكتنز بالأشجار و الغدران، الممتد يمين الكثبان الضخمة غير المتحركة و التي تحاكي تموجهات المنخفض الذي يشرف علية من الغرب مجموعة كدى و هضاب صخرية تخالها غيما أو مزنا تلامس الأرض.
في أجواء ساحرة كهذه ، مع ان الشمس قد غابت في الغيوم ، و الرياح البارد المدعمة بمكيف اليابانية تدغدغ المشاعر ، سرنا في ما يشبه الخيلاء ...
(2)..مررنا بتجمع (كروجل) على مسافة 38 كلم من كيفة ، و تكتنز القرية في داخلي الكثير من المشاعر ، فهنا استوطن قوم شم كرام ، أوغلوا في الفضائل و العراقة ، و هنا تبين لك التضاريس عن منظر خلاب متنوع العناصر ، و هنا يبتسم التاريخ معلنا عن ماض تليد ،و ثقل توارثه الأجيال ، و هناك لا يفارقني الألم لفراق زينة شباب لعصابة ، الأستاذ المصطفى ولد الشيخ الذي لملم معه أشياءه الجميلة و غادرنا منذ أسابيع .
في القرية رغم أن القوم قاطرة المجتمعات ، فهم يستخديمون اسمها ميسم على الماشية ، فعلى ذوات الظلف تقرأ الكلمة (كورجل) بكتابة واضحة ، و ربما عبر ذلك عن الإرتباط بالأرض و التواضع الذي هو سجية في هؤلاء الأفذاذ.
تتوالى الصور و الملاحم ، و تأتي المعالم الجميلة و يدق التاريخ في كل مرة على الباب ليتحدث عن المكان.
مررنا على تجمع (لكنيبة ) الساحر ، فاستذكرت (كيفان شور لكنيبة و أم النور) الذي يلحن في مقام لبتيت ، و بالأخص:
آن يعربي ... شنواسي يا الشكور
أطيوري فايدي ... ، و أنروغ أطيور
دخلنا في تجمع (سوروملي) و لن تخطئ عينك الواحة و المنحدر و الكثيب الذهبي العالي المرصع بالأشجار، الذي يشرف عليها من الشرق، و لعل سلاسة المسميات هنا تعبر عن إرتباط الإنسان لالجمال و التمتع بالرفاهية ، دون حاجة للتعفيد و التدقيق ، رغم أن مسميات أخرى تحكي تعلق مجتمعنا بالمحاكاة و الرغبة في التواصل مع محيطه العربي ، كالفلوجة و السعادة و غيرها .
تكررا كلمة (الحلة) على الطريق ، فقلت لعل لمؤسسة (الحلة) ذات الصلة بالمقاطعة امتدادات هنا ، أو ربما كان اختيارها للاسم هو بحث عن رنين الكلمة و تجذرها في وجدان المجتمعات..
(3)تقع مدينة كنكوصة على ضفتي البحيرة ، و بمحاذة كثيب ضخم يحشر المدينة من الشرق ، في موقع ساحر قل نظيره في البلدة ، و يمتد المنحدر الذي يحتضن البحيرة و الواقع بين طرفي المدينة حتى وادي كركور الذي يصب في النعر السيغالي .
ترصع جنبات البحيرة أشجار الدوم و الغضى و جوز الهند و النخيل ، و لا يستطيع طرفا المدينة التواصل إلا عبر الزوارق التقليدية .
قضينا مقيلا ممتعا في بادية شرق تجمع (أدفيعه) ، و أثار انتباهي المدنية الطافحة و الهدوء الكبير ، و احتشام النساء و الخلق الرفيع للرجال ، في التجمع ، الحركية التي طغت على التجمع قبيل صلاة الظهر فالصلاة في المسجد ، و تكررت دفس الحركية مع صلاة العصر ، و عرفت من مرافقي أن الأسر ذات امتداد اجتماعي من تجمع القديمة في كيفة ، الذي اختط لنفسه مكانة مرموقة تتجاوز الاعتبارات التقليدية في المجتمعات الريفية .
رغم تنوع الفسيفساء الاجتماعية في المدينة ، فإن الانتماء لها هو الأساس ، و يرجب السكان بالوافدين و السياح ، الذين لا تخفى سيماهم من الانبهار و الحيرة التي تتملكم من سحر المدينة ، كما أثار انتباهي استعداد الجميع للخدمة و حل مشاكل و استفسارات الزائرين .
يمر الطريق المعبد خارج المدينة و يتوقف فجأة معلنا عن حقيقة أهرى من حقائق مشاريعنا التي تراعي مصلحة المنفذ على حساب المستفيد ، فلم أجد مبررا مقنعا لعدم اختراق المدينة غير ذلك ..
(4)بعد صلاة العصر انطلقنا لاستكشاف معالم السياحة في المدينة ، و اخترقنا المدينة طولا ، فلاحظنا مباني قديمة لعلها مشروع عمراني أجنبي ، و ذلك االتنوع في بناء المنازل الذي يعكس الميستويات المادية للسكان ..
عند المعبر الرئيسي للبحيرة تجد السياح و المواطنين العابربن بين العدوتين ، و وسيلة التنقل هي الزوارق التقليدية الصغير التي تعمل بالمجداف ، و يبهرك جمال البحيرة و اسجارها و عرضها ، في مشهد مساء جميل ..
اكترينا زورق عبور و لقد تنلكني الفزع خوفا من رهاب البحر الذي يصيبني عادة ، لكنني الارتخاء و الشعور بالمتعة و الانطلاق كان سائدا طوال الرحلة ذهابا و عودة .
من مشاريع الغشرية التي لم تر النور : استصلاح البحيرة و دعم زراعة الخضروات ، و كذلك بناء جسرا يربط بين أطراف المدينة ، لكن ربما كانت تلك المشاريع مما لا يرى بالعين المجردة .
لأول مرة في حياة البحيرة نضوبها في السنة الماضية و السنة التي قبلها ، بسبب قلة الامطار و بعض السدود ، لكن الوزارة تدخلت و اعادت للبحيرة القها ، و دبت في المدينة الحياة من جديد .
مع الغروب ودعنا المدينة ، لكننا لم نشبع ناظيرنا من معالمها الجميلة و اشجارها ، و لم نجد وقتا لتلمس أوجاع الناس و إكراهاتهم ، لكن تاريخ المنطقة كان يعزف انشودته الجميله ، تارة مع ازيز الرصاص و عراي اسروزي ، و تارة مع تراتيل العباد و النساك و صرير المسبحات .
كنكوثة سحر يحفر في النفس ثورا لا تزول و جمالا ياسر الالباب ..