هل يكفي الموت واعظا لِسَاسَتِنا ؟ بقلم: عبد القادر ولد الصيّام
وكالة كيفة للأنباء

في كل يوم نودع أمواتا، و مِن هؤلاء الأموات مسؤولون كبار ابتلاهم الله تعالى بمناصب و مسؤوليات كبيرة، و قد فقدنا خلال السنوات الماضية بعض الرؤساء و الوزراء و النواب و السفراء و المسؤولين المدنيين و العسكريين، و قد مات بعضهم فجأة، و مات بعضهم بسبب حوادث السير، و مات آخرون بعد معاناة مع المرض. رحمهم الله جميعا.

و هذا المقال تحذير لنفسي و لزملائي و لبقية المواطنين و المسؤولين حول خطورة الغلول و الفساد المالي و الطغيان و التكبّر في الأرض, و تنبيه على أن بعض مَن تولى مناصب عليا في هذا البلد قد مات

و خرج مِن الدنيا و ليس معه إلا كـَفن, وسنصير -جميعا- إلى ما صاروا إليه- و لا يسْعى هذا المقال للحكم على من ماتوا بقدر ما ينبّه الأحياء إن رغبوا في سماع النصيحة و التحذير, و أرجو أن يكون فيه عظة لهم حول خطر المسؤولية تجاه شعبهم, و تحذير لهم من عواقب الظلم و الخيانة و الغلول- و أضيف لهؤلاء بعض الطامحين للرئاسة و المقربين منهم ممن يبحثون عن السلطة و الثراء السريع على حساب الشعب المغلوب على أمره.

و مع أن الموت حق و لن ينجو منه أحد -كما قال الله تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه و سلم -في سورة الزمر-: "إنك ميت و إنهم ميتون" رغم ذلك إلا أن موت الفجأة و موت المشاهير لهما دور كبير في التأثير في نفوس بعض العقلاء الذين يُزهّدهم ذلك في التنافس في الدنيا و طلب الرئاسة و السلطة، و رغم أن حب السلطة و المال غريزة بشرية (و إنه لحب الخير لشديد) إلا أن الشعوب استطاعت أن تقلّل من تسلّط قادتها و اختلاسهم لأموالها بردع دنيوي يتمثل في المساءلة السياسية (عبر البرلمان) و القانونية (عبر مفتشيات الدولة و القضاء) و ربما تتم إقالة و / أو محاكمة بعض المسؤولين لأسباب تتعلق بذلك (كما شاهدنا في كوريا الجنوبية في مارس 2017 حيث أقال البرلمان رئيسة البلاد "بارك غوين هاي" و صادقت المحكمة العليا على ذلك , و السبب هو العلاقة التي ربطتها ب"تشوي سون-سيل" حيث استغلّت الأخيرة صلتها بالرئاسة و ضغطت على شركات للتبرع بملايين الدولارات لصالح الجمعيات الخيرية التي تديرها, و في البرازيل حيث تم سجن الرئيس السابق "لويس إيناسيو لولا دا سيلفا" في ابريل 2018 لمدة اثني عشر عاما بسبب "تلقيه رشاوى من بينها شقة فخمة من شركة بناء مقابل امتيازات في مناقصة عامة").

كما تقوم المجتمعات المتديّنة بتحذير قادتها و مسؤوليها من خطورة "الغلول" و "الخيانة" و الشطط في استخدام السلطة ، و ذلك من خلال استخدام النصوص الدينية المتعلقة بذلك لعلها تُحيي ضمائرهم و تذكّرهم بخالقهم -سبحانه و تعالى-, و بالنسبة للمسلمين فإن النصوص المتعلقة بذلك كثيرة معلومة , و مِنها:

1-قوله تعالى -في سورة آل عمران-: " و مَن غلّ يأتِ بِما غّلّ يوم القيامة"

2- ما رواه البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه و سلم قال :" إنكم ستحرصون على الإمارة و ستكون ندامة يوم القيامة, فنعم المرضعة, و بئست الفاطمة".

3-ما رواه مسلم عن ابي هريرة -رضي الله عنه- قال: قام فينا رسول الله -صلى الله عليه و سلم ذات يوم فذكر الغلول فعظّمه و عظّم أمره, ثم قال: " لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء, يقول: يا رسول الله أغثني! فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك! ( الحديث...)

4-ما رواه البخاري عن خَوْلَةَ الْأَنْصَارِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّ رِجَالًا يتخَوَّضُون فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".

5- ما رواه الشيخان عن الحسن قال: عادَ عُبيدُ الله بن زياد معقلَ بن يسار المزني -في مرضه الذي مات فيه- فقال له معقل: "إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : "ما من عبد يسترعيه الله رعية يوم يموت و هو غاش لرعيته إلا حرّم الله عليه الجنة" , و في رواية لمسلم :" ثم لا يجهَد لهم و ينصح".

و حينما يقوم القادة ب"تحصين" أنفسهم من المساءلة الدنيوية عبر دساتير يكتبونها و عبر نظام قضائي تابع لهم و برلمان يسبّح بحمدهم و مفتشين يحتاجون لمن يفتشهم - يُستَخدَمون لتخويف المخالفين و يَتغاضون عن خطيئات السادة و الكبراء و المقربين منهم- فإنه لا ينبغي للمجتمع و لا لقادته الدينيين و السياسيين تقديم "صكوك غفران" تزيد من جشع المختلسين و أكَـلـَة المال العام , فإذا لم يَخَفْ هؤلاء من المساءلة و العار في الدنيا فلا بد أن يبقى "سيف" الخزي و العذاب في الآخرة مُصلَتا في وجوههم علّ ذلك يؤدي إلى تقليل ما سيبتلعونه من أموال الشعوب المسكينة المغلوبة على أمرها, أو لعله يكون غصّة في حناجرهم و بطونهم المتخمة بالسحت و الأموال العامة، و لعل أنّات المرضى و صرخات الأطفال و اليتامى الجوعى ترنّ في آذانهم فتمنعهم النوم و تُفسد عليهم خلواتهم و متَعهم!

إن موريتانيا بلد صغير ذو موارد اقتصادية كثيرة, و قد حصل طيلة العقود الخمسة الماضية على تمويلات كثيرة تكفي لجعله "اسويسرا" افريقيا , و لكن غلول كثير من المسؤولين و عدم تورّعهم عن أكل أموال و مشاريع و هِبات و قروض البلد جعلت بعض "القطط السمان" تملك أكثر مما تملك الدولة, و جعلت بعض الموظفين يملك ما لا يستطيع توفير عُشُره من راتبه لو عاش عمر نوح -عليه السلام- و جعلت من بعض "المورّدين" و "التجار" أباطرة مشاركين لكل حاكم و سلطة في اختلاس المال العام و الثراء الفاحش الذي يتفاخرون به و يظهر من خلال الممتلكات الكثيرة و السيارات الفارهة و النفقات العلنية التي لا مصدر لها سواء "الغلول و المال الحرام" في الوقت الذي يكدح فيه مواطنون شرفاء في الداخل و الخارج -و يواجهون الصعوبات و المخاطر- من أجل توفير عيش كريم لهم و لأهليهم، و هم يشاهدون بعض أبناء المسؤولين "يلعبون" بالملايين و المليارات!

لقد رأينا بعض "المسؤولين" السابقين الذين بلغت تركتهم مآت الملايين بل المليارات -و لم تكن مصادر دخلهم سوى مؤسسات عمومية تربّعوا عليها طيلة عقود من الزمن و استأثروا بمداخيلها عن الخزينة و الناس, و مع ذلك فقد ماتوا و تركوها لغيرهم و سيُسألون عنها و يُحاسبون عليها ، و هي حقوق عامة لملايين الناس, و لم نسمع أن ورثة تورّعوا عن مال حرام ورثوه!

لقد آن لساستنا و رجال أعمالنا و قبائلنا و مفكرينا أن يرحموا شعبنا المسكين و يتورّعوا عن أكل ماله و يهجروا من يفعل ذلك , و أن يُرجعوا للشعب حقوقه, و أن يُلبّوا للطلاب حاجاتهم, و يَصرفوا للمرضى مخصصاتهم و للطرق نصيبها من الميزانية, و أن يُقسطوا في منح القطع الأرضية و الصفقات العمومية و الامتيازات و التعيينات المتنوعة , و أن يعلموا أن من يتصدق من المال الحرام كمن يتطهّر بالبول و يُصلي بالجنابة, و أنّ غَضَبَ الله سيعُمّهم إن هم واصلوا نهج اختلاس المال العام و إفقار البلد و سكًانه و ظلمهم دون خوف من أحد!

و يجب علينا تذكير الحكام بخطر إغلاق مؤسسات المجتمع التعليمية و الخيرية, و رفض ذلك -بكل الطرق السلمية- حيث إنه -رغم كل ما يمكن أن يحدث في هذه المؤسسات من خلل - فإنه يمكن محاسبة المسؤولين عنه و تقديمهم للعدالة و الحفاظ على هذه المؤسسات و أدوراها التي تعجز عنها الحكومة أو ترفض القيام بها، و لا ينبغي معاقبة المستفيدين بسبب نزوات سياسية يسعى أصحابها للانتقام من جهات معيّنة تحسدها السلطة على توفير الكثير من الخدمات بمصادر محدودة أو إرضاء لجهات خارجية, و في ذلك من الظلم و الشطط في استخدام السلطة ما لا يخفي على عاقل!

و ممّا يجب علينا -كذلك- تذكير أنفسنا و "مسؤولينا" ب"هادم اللذات" و "مفرّق الجماعات" , و أن يقول كل مواطن أنه :"يُشهد الله و الملائكة و الناس أجمعين أنه "لن يُسامح مَن ظلمه أو أخذ حقه " حتى يكون القصاص "يوم لا ينفع مال و لا بنون" حتى لا تضيع حقوق الناس -غصبا في حياة المسؤولين- و تُعفى -طوعا- بعد موتهم دون أن يعتبر الحكّام و المسؤولون الأحياء ليتمتعوا بعفو "مجاني" من مواطنين سذّج أكلوا أموالهم و أغلقوا مؤسساتهم و هيآتهم التعليمية و الخيرية ، و أرهبوهم في حياتهم ليغادروا هذه الدنيا مغفورا لهم و إلى "جنة الفردوس"!

و ختاما، فلا يخفي ما للحاكم العادل من أهمية و فضل و أنه أول "السبعة الذين يُظلهم الله في ظله" , كما أنّ المقسطين "على منابرَ من نور يوم القيامة عن يمين الرحمان -و كلتا يديه يمين-: "الذين يَعدلون في أنفسهم و أهليهم و ما وَلوا" و ينبغي لنا جميعا أن نحرص على العدل في القول "و إذا قلتم فاعدلوا" و أن نَقـْسِم بالسوية و أن نخشى من خطورة الظلم و الطغيان و الغلول, و أن نعلم بأن بَعدَ هذه الحياة موتا ( إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى) و بَعدَ الموت قبرا و نشورا و حسابا و جَزاء -إنْ خيرا فخيرا و إنْ شرا فشرا- فهل يكفي الموت واعظا لساستنا؟!

بقلم: عبد القادر ولد الصيّام


  
وكالة كيفه للأنباء - AKI
2019-03-08 07:44:00
رابط هذه الصفحة:
www.kiffainfo.net/article24246.html