هل سيعود الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز إلى البلاد أم لا يعود؟ هل سيعود كرئيس فعلي و”حاكم فردي” وقد شفي تماماً من حادث إطلاق النار، ومخلفات رصاصة ال 13 أكتوبر؟ ثم يترشح لولاية ثانية أم يعود “ديكورياً”، كما أعلن رسمياً بعد غدٍ السبت (24/11/2012)، أي على شكل “توقيع” و”تشريع” لجهات ما في الحكم الحالي؟ أم كمشرع وطني لمرحلة انتقالية يخرج خلالها من حكم البلاد بشرف الفارس الذي ترجل طواعية؟
هذه هي الأسئلة التي يطرحها الآن المتابعون للحراك السياسي الموريتاني في مرحلته الراهنة، التي يبدو أنها، وهذا لا شك فيه، تحولت إلى جسر يوصل إلى مرحلة أخرى لا يتضح أي من معالمها حتى هذه اللحظة، بالرغم كل الأضواء الكاشفة المسلطة من طرف الجميع في محاولة منهم لركوب القطار غير المعطل .
بداية نلقي الضوء على سلة الحراك الأسبوعي، فبالأمس (الأربعاء) نزلت منسقية أحزاب المعارضة الموريتانية إلى الشارع، ساعية من خلال الحشد الجماهيري إلى تأكيد حجمها الشعبي وحضورها القوي وقدرتها على قلب الطاولات، والأهم الرسالة إلى الجيش بأنها غير قابلة للتجاوز من دون مستحقات المشاركة، فيما الرسالة الخارجية هي لحملة طبول الحرب في شمال مالي، بأن مشاركة موريتانيا في هذه الحرب مرهونة بموقف توافقي وطني موريتاني داخلي يستحيل دون المنسقية .
جاء مهرجان منسقية المعارضة، أمس، بعد مشاورات موسعة أجرتها المنسقية مع كافة ألوان الطيف السياسي والمدني الموريتاني، تميزت بأول لقاء بين منسقية المعارضة الداعية لرحيل النظام والحزب الحاكم (الاتحاد من أجل الجمهورية) الذي كان قبل إصابة الرئيس يتهم المنسقية ب”الإلحاد الديمقراطي”، ويعتبرها وكراً لتفريخ وإنتاج دعوات العنف والتطرف والغلو .
ولعله من ذكاء السياسيين وقدرتهم الفائقة على الدوران في جاذبية المرونة، أن الموريتانيين لم يصدقوا كيف يأخذ رئيس الحزب الحاكم محمد محمود ولد محمد الأمين وبالأحضان والابتسامات العريضة زعماء المنسقية، ويبلغهم استعداده للتشاور في كل القضايا الجوهرية التي تهم الوطن، وإن كان لا يشاطرهم مسألة “الفراغ الدستوري” وتعطل أعمال الحكومة والدولة .
أسئلة كثيرة طرحها هذا اللقاء، الأول من نوعه بين خصوم الأزمة الموريتانية، أهو لقاء مناورة من الجيش والحزب الحاكم لحين تجاوز صحة الرئيس مرحلة الخطر والعودة للبلاد، أم هو إيذان ببدء تنسيقات سرية بين العسكر والمعارضة عبر عنوان الحزب الحاكم ومؤتمنيه . . وبلغة أحد المحللين الموريتانيين “أهو دم أم أحمر شفاه” .
إن كل الاحتمالات الأخرى لا تبدو مقنعة أو حتى واقعية، بالنسبة للمراقبين الذين لا يغيب عن بالهم أرشيف الصراع المرير بين النظام ومنسقية المعارضة، والذي كلف سنوات من العرق والمال والجهد، ونزلت فيه النخبة السياسية في البلاد على أدنى مستويات الخطاب الشعبوي في تاريخها . لقد جمدت منسقية أحزاب المعارضة شعار “الرحيل” وبدأت البحث عن إقناع الأطراف التي تمسك بزمام السلطة حالياً في غياب الرئيس، ببدء مرحلة انتقالية تفضي إلى انتخابات توافقية، وهو تعبير يعني لدى الموريتانيين، الرحيل بشعار الانتخابات والوفاق، من دون أن يكون بالضرورة لموريتانيا دكتاتورها المعزول أو الهارب، فقد تكفلت “الرصاصات الصديقة” بالمهمة وفق تصريحات المعارضة الثائرة .
أما معاهدة أحزاب المعارضة المحاورة فيبدو أنها حسمت أمرها من خلال تجميد كل المبادرات والمقترحات لحين عودة الرئيس من رحلته العلاجية، ما يعني أن رفاق “مسعود- عبدالسلام- بيجل”، انحازوا بشكل واضح لاستمرار نظام ولد عبدالعزيز مهما كان وضعه وإلى حين عودته واتضاح حقيقة وضعه الصحي، وهم مطمئنون على ما يبدو إلى أنهم سيكونون على رٍأس المستفيدين من أي مرحلة سياسية مقبلة، على اعتبار أن الكلمة العليا تبقى للجيش، وللنظام السياسي الحاكم بغض النظر عن شكل التمريرات الجانبية في ملعب مرض الرئيس: عودته أو عجزه .
دعم النظام
في هذه الأثناء فوجئ الرأي العام الموريتاني بتحرك غير متوقع، فقد حشدت القيادات التاريخية للتيار القومي بشقيه الناصري والبعثي لاجتماع تشاوري، أعلن بعده عن استمرار الدعم و”الإخلاص” لنظام الرئيس محمد ولد عبدالعزيز .
وشكل القائمون على الاجتماع لجنة كلفت بالعمل على دعم النظام المؤسسي القائم، مشيدين “بالأداء الجيد لكافة السلطات التنفيذية والتشريعية والأمنية في هذه المرحلة الحساسة وكذا الأحزاب السياسية الداعمة لرئيس الجمهورية” .
ويبدو أن “الآباء” المؤسسين” للتيار العروبي الموريتاني بشقيه الناصري والبعثي وهي ذات القيادات التي تعرف ب”مهندسي الانقلابات العسكرية”، بدءاً بأول انقلاب سنة ،1978 وحتى آخر انقلاب 6 أغسطس/ آب ،2008 تحركت بدوافع متعددة، أولها عدم التخلي عن النظام الحالي الذي وجدت تلك القيادات أنه أعطى للقوميين ما لم يجدوه في ظل أي نظام سابق، ويكفي مثلاً أن نعرف أن رئيس الوزراء الحالي وخمس وزراء آخرين من ذوي الخلفية الأيديولوجية في أحد شقي التيار العروبي، في ما ينتمي للتيار الآخر عدة وزراء وعشرات المسؤولين . . وباختصار أدق فإن النظام الحالي من حيث “الخلفية الأيديولوجية” يعتبر “نظاماً ناصرياً - بعثياً”، وهذا ما يفسر في أحد أوجهه صراع النظام مع التيارين الإخواني واليساري .
لكن السؤال الذي طرح في هذا السياق، والذي يكاد يكون على لسان كل موريتاني، هو هل تحرك قوميي موريتانيا بهذا التنسيق المكثف، والأول من نوعه، من أجل الحفاظ فعلاً على محمد ولد عبدالعزيز رئيساً للنظام القائم، أم تحركت تلك القيادات المعروفة بدهائها وسرعة استشعارها لنهاية “الأحكام الشخصية”، من أجل استغلال ما بقي للنظام من شرعية في سبيل تمرير مرشحها لقيادة موريتانيا في المرحلة المقبلة؟
وما هو حقاً موقف تلك القيادات، بل وما هو دورها في صراع الأجنحة داخل السلطة وهو الصراع الجاري منذ ان هبت عاصفة “الرصاصات الصديقة”؟
وهل يمكن لهذه القيادات أن تغامر فعلاً باختلاق أو تأجيج صراع بين أقطاب النظام، أو ما يروج الآن عن معركة كسر عظم بين جناح الوزير الأول مولاي ولد محمد الأغظف، الذي يسير الشؤون الإدارية للبلاد، وبين جناح الجنرال محمد ولد الغزواني، قائد أركان الجيش، والذي يسير البلاد عسكرياً وأمنياً، وإلى حد كبير يسير الأمور الإدارية ذات الطابع السيادي؟
وهل هذه القيادات بهذا التحرك، وفي هذا التوقيت بالذات، سعت لأن تضمن إحكام سيطرتها على الأغلبية الرئاسية الحالية بثوبها الحزبي، الذي كان البعض يعتبره جناحاً آخر للحركة الإسلامية في البلاد . وبعبارة أدق هل قرر عروبيو موريتانيا التخلص من إخوان النظام؟ وبعض “زوائده” السياسية التي يرى البعض أنها باتت عالة على النظام، أو أنها اصبحت حصان طروادة داخل الأغلبية الرئاسية؟
مما لا شك فيه أن احترافية جيل القيادات القومية المؤسسة أصبح أمام تحد كبير، فالبلاد تعيش أزمة سياسية خانقة وأخرى معيشية طاحنة، وأمنها القومي على المحك إزاء مخاطر الحرب المرتقبة على عرب وطوارق شمال مالي، ومثلت إصابة الرئيس وغيابه بشكل مفاجئ ساحة للمخاوف من انفلات الأمور، وفي أدنى المخاوف قفز قوى المعارضة التاريخية إلى دور اللاعب الرئيسي في تحديد ملامح المرحلة المقبلة .
فهل صحيح أن القيادات القومية الموريتانية تسعى لتشكيل “حكومة ولد الأغظف - الغزواني - مسعود” في فترة نقاهة ولد عبدالعزيز أو غيابه، أم عكس ذلك سعت لفض هذا الائتلاف القائم عملياً، والدفع ببعض أجنحته إلى الواجهة . وسط مخاوف من اتخاذ أطراف أخرى لما يعرف ب”جناح قائد الجيش” مطية للوصول إلى الحكم أو الهيمنة على نظام الرئيس عزيز ما بعد حادث إطلاق النار؟ أم أن الأمر كما يراه أحد المحللين الموريتانيين لا يخرج عن مخطط يديره الجنرال غزواني نفسه ويسعى من خلاله إلى إبقاء الرأي العام في حالة من الترقب الدائم والانشغال بافتعال صراعات ثانوية حتى تسنح الفرصة لترتيب ما قد يكون بمشاركة ومباركة من الرئيس نفسه لنقل السلطة إلى “يد أمينة” تضمن استمرار الجيش في حكم البلاد”؟
ترقب
هذه الأسئلة المطروحة على موائد كل المراقبين والمحللين قد لا تجد أجوبة شافية في وقت قريب، فأجنحة النظام الأخرى لاتزال ظاهرياً تحجم عن الخوض في معارك مبكرة، وتكتفي بالمراقبة وبتأمين أرضيتها الخاصة، بل لا يبدو أنها استوعبت حجم المرحلة ومستحقاتها، وسبل التعامل معها، بينما لاتزال منسقية المعارضة عند حدود العمل القانوني وتوزيع الورود على مختلف الطيف السياسي، ولم تؤكد روايتها، التي بلغت حد القسم بالله على أن “الرئيس عاجز”، بأدلة مقنعة عن نهاية الرئيس صحياً، واستحالة عودته قبل أربعة أشهر، بل وعجزه عن ممارسة مهامه في حال عودته .
ووفق المعلومات التي حصلت عليها “الخليج” فإن إحدى الشخصيات البارزة في منسقية المعارضة، والعائد من باريس مؤخراً، رجع بقناعة أوصلها إلى أطراف في المعارضة، وهي أن فرنسا، المستعمر التقليدي للبلاد والدولة الأكثر نفوذاً في الشؤون الموريتانية، لاتزال متمسكة بولد عبدالعزيز “مادام قادراً على تحريك أصبعه، وإذا عجز فإن ثقة فرنسا في قائد أركان الجيش محمد ولد الغزواني” . ويعني هذا أن القوى الخارجية، وخاصة الغربية، لن تعتمد المراهنة على المعارضة التقليدية الموريتانية، التي لم تثبت يوماً تجاوزها لامتحان الولاء رغم كل فروض الطاعة التي أدتها على مدى عقدين من الزمن .
وبحسب المعلومات فإنه ليس أمام منسقية المعارضة الموريتانية خلال هذه المرحلة سوى المراهنة على “عقلانية” الجنرال محمد ولد الغزواني، ووصول الجيش إلى قناعة بأنه لم يعد هنالك بد من التغيير، إلا إذا تمكنت المعارضة من تحريك الشارع بمستوى يقنع المؤسسة العسكرية وشركائها الغربيين بأن الرأي العام الموريتاني بات شريكاً فعلياً في فرض صناعة القرار، وهو رهان لا يمكن لأكثر المراقبين جرأة المراهنة عليه . . على الأقل وفق المؤشرات القائمة حالياً .
امتحان الاستقلال
كثرت المعلومات المتضاربة عن حقيقة صحة الرئيس الموريتاني، وبعد 36 يوماً، لم يظهر فيها الرئيس في أي تسجيل مرئي أم مسموع، وفجأة أعلنت الوكالة الرسمية للأنباء، يوم الاثنين الماضي، أن الرئيس سيعود إلى البلاد يوم السبت المقبل، وأعلنت أن الرئيس أجرى مباحثات مع الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في الإليزيه، وأكد الرئيس شخصياً في أول ظهور أمام الصحافة بالإليزيه، أنه “بصحة جيدة” وأنه سيعود إلى البلاد في الأيام المقبلة .
إلا أن الرأي العام الموريتاني لم يقتنع بأن الكلام والمشي دليل على قدرة الرئيس على أداء مهامه، بل وتحمل أعباء حكم بلد كموريتانيا يتطلب حركة دائمة . وباستثناء قيادة الجيش، ووفق عشرات الاستنطاقات التي أجرتها “الخليج”، لا يمكن لأكثر السياسيين الموريتانيين اطلاعاً معرفة الملف الطبي للرئيس ولد عبدالعزيز، وما إذا كان الموريتانيون قد باتوا ينظرون إلى نظام ولد عبدالعزيز في “مرآة خلفية”، أي إلى مشهد تم تجاوزه، أم أنهم وقعوا في أكثر الفخاخ السياسية مخادعة ومكراً، وتم إلهاؤهم بأحجية سياسية أمنية معقدة، تستهدف كسب الوقت وتصفية “خلصاء الحكم” استعداداً لإدامة نظام الجنرالات .
ويؤكد محللون ما ذهبت إليه “الخليج” في وقت سابق، من أن عيد استقلال البلاد (28 نوفمبر الجاري)، بات هو الفيصل في روايات الوضع الصحي للرئيس الموريتاني .
ويتم هنا الحديث في هذا السياق عن ثلاثة احتمالات:
تمكن الرئيس من العودة المؤقتة لتسجيل خطاب الاستقلال، والمصادقة على جملة من المشاريع والقوانين والإجراءات المعطلة منذ غياب الرئيس، وأبرزها ميزانية ،2013 ورخص التنقيب والاستثمارات، وتمويلات المشاريع، ثم عودة الرئيس لاستكمال علاجه ونقاهته .
وفي هذه الحالة، فإن أسئلة كثيرة ستطرح عن فرضية عجز الرئيس عن أداء مهامه، وهو ما سيزيد من فتيل “الفراغ الدستوري” الذي أشعلته منسقية المعارضة منذ إصابة الرئيس . وإن كان قد يتم اللجوء إلى إجراءات من قبيل تخويل بعض صلاحيات الرئيس إلى وزيره الأول، أو حكومة جديدة تروج بعض الأوساط الخاصة أن الرئيس سيشكلها فور عودته، ولا يستبعد ان تكون “حكومة مكافآت” للأطراف التي تم اختبارها خلال محنة الرئيس .
الاحتمال الثاني، أن تكون عودة الرئيس عودة نهائية، وهو ما يفرض إعادة تشكيل وتدوير للنظام من جديد، على ضوء التجربة المرضية للرئيس، ولا يعرف مصير مكونات النظام باستثناء هرم الجيش، فالموالاة خرجت من حادث الرئيس بأدنى مستوى من الداء السياسي والشعبي، وبدت مرتبكة ومنقسمة، بل إن بعض مكوناتها فصل أثواب الحداد وخطا بعيداً في اتجاه الراغبين بدفن النظام أو وأده عبر نفق الرصاصات الصديقة .
ولا يمكن الرهان في هذه الحالة على أن الاستقرار السياسي سيتوافر، فمنسقية المعارضة الموريتانية طلقت المصالحة مع الرئيس ولد عبدالعزيز حين كان في أبهى قوته البدنية والمعنوية، وأطراف في النخبة السياسية الموريتانية مولعة بالقول إن تجارب الرصاص الصديق ستتكرر ما دام ولد عبدالعزيز على منهج حكمه الحالي .
الاحتمال الثالث، ألا يتمكن الرئيس من العودة في ذكرى استقلال البلاد، وحدث من هذا النوع كفيل بأن يضع الأمور أمام ألف خيار، إذ ستكون فترة التعتيم على الوضع الصحي للرئيس قد تجاوزت المقبول، وتكون كل التبريرات قد استنفدت مفعولها .
وفي تلك الحالة أمام الجيش الذي يمسك بمقاليد الأمور، أن يخرج عن صمته بطريقة ما، فيرفع غصن التشاور والوفاق مع المعارضة، ويعمل على تمتين جبهته السياسية الداخلية، أو الشروع في إجراءات مرحلة انتقالية تنتظر عشرات الأسماء فور خروجها إلى النور .
باختصار . . لا توجد مرحلة في تاريخ الدولة الموريتانية لا يوصف فيها وضع البلاد بأنه “حساس” و”كارثي” وعلى فوهة البركان . . لكن الكثيرين يخشون هذه المرة أن موريتانيا باتت بالفعل تتفرج على جوف البركان، وأن ساعة الفوران اقتربت، وكل ما يأمله المواطنون الموريتانيون البسطاء هو أن يكون هذا الفوران سياسياً، وألا يتحول إلى مزيد من النيران الصديقة أو الحمم الحارقة ..
الخليج الإماراتية