هنا رجل أشيب يوشك بعد بضع وعشرة أيام أن يصل للثانية والخمسين من عمره، في عيونه قلق لم يعرفه لا في 1978، ولا في 1984، ولا في 2005، و...برغم كل عجفها وعفونتها السياسية!، إنه جديد تماما، إنه قلق ال 13 من أكتوبر 2012!.

يحل الشتاء عليه قبل ذكرى مولده في ال 28 من نوفمبر الجاري، وهذه المرة بات يقلقه الشتاء، وبات يردد ما قاله محمود درويش، وكأنه لم يكتب إلا له: ( لم يكن في الشتاء بكاء يدلُّ على آخر العمر، كان البدايةَ، كان الرجاءَ ،.. فماذا سأفعل، والعمر يسقط كالشَّعْر، ماذا سأفعل هذا الشتاء؟).

انطلقت رصاصة ال 13 من أكتوبر، لا لكي تصيب الرئيس في بطنه، بل لكي تجعل الشيب وشتاءه وحيرته وقلقه يغزون رأس الوطن، لم يعد في هذا الوطن "الكهل البائس" منا معاشر الغالبية البسطاء، من يعرف بشكل يقيني من يحكمنا الآن؟...هل تفتت رأس السلطة فغدا متعددا ومتصارعا؟؟!.

ليس منطقيا قطعا أن نقبل كمتلقين، أن نفس اليد التي تحاول تثبيت الاطمئنان العام على وضع الرئيس، وعلى قدرته المستمرة في مزاولة الحكم، هي نفسها التي تترك أثناء عملها ذاك مثالب كبيرة فيه، يمكن لأي طفل في نظامنا التعليمي الحالي (والمتردي)، أن يحللها ويدرك أنها تنسف كل قصص الطمأنة وصورها.

انطلقت الرصاصة على الرئيس ، وانطلقت معها الرواية "الصديقة" الرسمية، كثيرون أكدوا أن تصريحات وزير الاعلام الموريتاني ، والتي أعلنت قصة "النيران الصديقة"، كانت بناء على أوامر وتوجيهات من الجنرال غزواني قائد أركان الجيش الوطني، وأن تصريحات الرئيس نفسه المثبتة للرواية الرسمية، كانت جراء تنسيق بين الجنرالين "الصديقين"، فهل كان حدسهم صادقا؟؟.

يأتي حديث الملازم المعترف بإطلاق النار، والفيلم التسجيلي له المعد في أوساط الجيش الوطني، والذي ترك وراءه بشكل واضح شكوكا عديدة تبدو وكأنها متعمدة.

لاحظ كل من استمع إليه ،وحاول مقارنته مع المعطيات التي قالها وزير الاتصال من قبل، ومع شهادة الشهود الذين رصدوا وقت وطريقة وصول الرئيس للمستشفى العسكري!، أن في الأمر كله أشياء غامضة، وأن الرواية الرسمية تبدو وكأنها تصدر من أكثر من مصدر، وأن التنسيق بين تلك المصادر يبدو غائبا.!.

تظهر صورة الرئيس مع وزير الدفاع الفرنسي في مستشفى بيرسي، لا لتزرع اليقين بسلامته، بل لتؤكد كل الثغرات التي صاحبت حكاية أخذها، وطريقة حبك قصتها.

لكأننا في مسلسل منتظم ومحترف، يحاول أصحابه أن يقولوا بشكل غير مباشر: سنؤكد لكم أخبار الرئيس ونطمئنكم عليه، لكننا نريدكم أن تشكوا في كل ما نقدم من أدلة، وفي نهاية الأمر ستقنعون يا جماهير شعبنا العزيز، بأن وضع "رئيسكم" خطير ، لأن من يحاولون طمأنتكم يتعمدون الخطأ وزرع الشك بشكل ممنهج ومتعمد؟....من هي تلك الجهة التي تبدو قاصدة تحطيم صورة الرئيس، وقتل أي أمل في عودته، وبنيران غير صديقة إطلاقا؟؟.

في يوم سبت موالي لحادثة إطلاق النار على الرئيس، تنطلق شائعات وصفت "بشائعات السبت"، كان من الواضح من خلال بداية توقيت إطلاقها، والطريقة التي جالت بها في الوطن كله، وحتى خارج الوطن، والتكثيف الذي جرى لها، وتوقفها تماما في وقت واحد، أن طرفا منظما لا يمكن أن يكون سوى جهاز مخابرات متمكن يقف خلفها.

كانت الشائعات تتحدث عن انتهاء حكم الرئيس الجنرال، وعن احتمالات مؤكدة لانقلاب عسكري عليه بمباركة غربية!، والأكثر إثارة أن بعض السفارات والجهات الدولية تعاملت مع تلك الشائعات بجدية، مما يوحي أنها تلقت تأكيدات عليها.

قيل في التحاليل إن الجيش وقادته كانوا يجسون النبض، لمعرفة ردود فعل الشعب على أي محاولة انقلابية محتملة!.

لكن المتأمل في واقع توقعات غالبية الموريتانيين، المدعومة بشواهد تاريخية متراكمة منذ 1978، يدرك أنهم كانوا متأكدين من استيلاء الجيش على السلطة في مثل هذه الظروف التي يغيب فيها رئيس الدولة، وأن الغالبية منهم مستعدة لممارسة نفس طريقتها المعتادة ،والتي أتقنتها وورثتها من جيل لجيل: التعامل بلامبالاة تصل لحد القبول ، و الرضوخ لأي انقلاب عسكري جديد.

كل ذلك يرجح أن الجيش لم يكن يحتاج لجس النبض، لمعرفة أثر أي انقلاب يعتزمه بعض قادته!، ويبرز السؤال عندئذ ماذا تريد تلك الجهة "المتمكنة" من عملها المنظم ذاك؟؟!.

يميل بنا الاعتقاد وتحليل كثير من المعطيات والمعلومات المتفرقة في ثنايا المشهد، إلى فرضية مفادها أن تلك الجهة مستقلة نوعا ما عن الجيش، ويبدو أنها أصبحت موازية له في تمكنها من إدارة لعبة الحكم في غياب الرئيس الجنرال، وهي من أطلق الشائعات، وهي من أوقفها، وهي من تسعى لتمرير سيناريو، لا يستبعد أن يكون من أطلق الرصاص، مجرد حد سكين فيه، تسعى إلى ذبح الوطن مرة جديدة ، تحت أقدام حاكم عسكري سابق ، وذو نفوذ سياسي، ومالي، وقبائلي!...، لكن هل تجرؤ تلك الجهة " النافذة" والمتحكمة في "المعلومات "وإدارتها، أن تتصرف دون التنسيق مع بعض قوى الجيش؟؟ و مع بعض قوى ولوبيات متحكمة في القرار السياسي الغربي؟؟.

يمكننا الجزم أن تلك " الجهة" لن تستطيع التحرك بفعالية، دون تنسيق مع بعض الأجنحة في الجيش، وخصوصا تلك الداعمة للحرب المرتقبة في مالي وبدون تحفظ ،

ونعتقد أن تلك الجهة " المحترفة" أطلقت تلك الشائعات "الانقلابية" لاستعراض قوتها، وقدرتها على إحراج وإقلاق بعض قيادات الجيش الأخرى، والتي ستسلط عليها الأضواء ، عند أي حديث عن الانقلاب، وستظهر عندئذ بمظهر الذي لم يحفظ ما اؤتمن عليه من طرف "صديقه"!.

إن تلك الجهة تريد من تلك الأجنحة التي مازالت حتى الآن ترغب بالحفاظ على الوضع كما هو عليه، أن تتخلى عن حيادها، وتنسق مع سيناريوهاتها...،لكن هل يمكن كبح تلك الجهة" القوية"، و عرقلة مسارها الهادئ في التحكم بلعبة الحكم؟..

أعتقد أن ظهور تسريبات عديدة تتعلق بتيار عسكري- قبلي- رأسمالي، يحاول دفع الحكومة للعمل بناء على أوامر منسوبة للرئيس المصاب، ويحاول أن يظل ظاهرا في الصورة كتيار متحفز ، ويرسل رسائل إعلامية مشفرة ، بأنه مستعد لتحويل موريتانيا إلى نموذج ليبي، يغدو فيه سيف "قذافها" مهددا باسم والده، وحاكما باسم قبيله،ومن يواليه من قوات، كل ذلك ينبئ عن محاولة للتصدي لتلك الجهة "القوية"!.

لقد بدأ هذا التيار في الاقتراب المباشر من أحلام الشعب ودغدغتها، وذلك عن طريق إطلاق المرحلة الأخيرة من تخطيط "الكزرات"، وتعهد وزير الداخلية أن تنتهي كلها قبل يوم الاستقلال في 28 نوفمبر.

و يبدو أن هذا التيار يظهر نفسه شيئا فشيئا كمواجه وحيد، لتلك القوة" التي تجيد التخفي"، وفي هذا الإطار لا شيئ سيكون أكثر تأثيرا في كل مخططات تلك "الجهة"، من إقدام ذلك التيار في الأيام القادمة، على بث مقابلة إذاعية (على الأقل) مع الرئيس المستشفي في باريس، وكأنهم سيقولون من خلالها لكل من تحدثه نفسه بالسوء في حق الرئيس: سيعود الرئيس في أي لحظة، لينفذ انتقامه، سيعود تماما كما يعود كل أبطال روايات المخابرات العربية!!.

إننا لا يمكن أن نخفي توجسنا من صراع خفي و "بارد" ، نشهده منذ 13 من أكتوبر،بين جناحي حكم قويين،ومن الواضح أن بعض "السياسيين" بدأ يدخل على الخط، ذلك أن لقاءات جرت بين من يوصفون "بالقيادات الكبيرة في الجيش" وبعض من يوصفون بالقياديين في منسقية المعارضة، ومنذ أيام قليلة فقط!...، على من يريدون تعزية الوطن الكهل في مصابه في بعض أبنائه، أن يفعلوا ذلك قبل ذكرى مولده!، ليس عليهم أن ينتظروا فقد لا يستطيعون إهداءه عندئذ، حتى قطعة شوكولا صغيرة!.

إننا نشهد دون أي حراك،صراع الرؤوس العديدة للحكم في الوطن، والذي يتم حتى اللحظة بشكل هادئ، و لكن الاسئلة التي تستدعي قلقنا كمواطنين بسطاء: هل سيتطور صراع السلطة إلى درجات ساخنة مضرة بلحمتنا كدولة هي أكبر وأهم من أي سلطة زائلة؟؟.. هل يؤدي أي اشتراك محتمل لجيشنا في حرب مالي إلى تنامي ذلك الصراع أم إلى انتهاؤه بفعل تحيز الغرب لأحد الطرفين؟ ...هل سيبرز طرف ثالث حاسم ينهي كل ذلك التجاذب الخفي، ويمسك بالأمور ويوجهها نحو دفة المصلحة العليا للدولة، سواء عاد رئيس الجمهورية "شفاه الله" بسرعة ، أم احتاج لعدة أشهر للاستشفاء؟؟!.