على مدى أكثر من عام، ظلت النخب السياسية والإعلامية الموريتانية تتعاطى جدلا لا ينتهي حول مشروع تعديلات دستورية تحدث عنها الرئيس عزيز قبل أكثر من سنة في خطاب النعمة الشهير، ثم البسها بعد ذلك لبوس المطالب الإجماعية عبر حوار اعتبره النظام شاملا رغم مقاطعته من قبل الأحزاب السياسية المعارضة الأكثر وزنا شعبيا والأعلى صوتا في الحضور الإعلامي..
كلما خبت جذوة الجدل، ألقى النظام بمزيد من الحطب عليها، حتى تظل مشتعلة تستهلك كل الاهتمام، في مشهد يبدو أنه أعد بعناية لخلق “حالة إلهاء” متعمدة لإغراق المعارضين في بحر تفاصيل مملة، بينما تتفرغ “النواة الصلبة” للنظام للمهمة الأكبر ألا وهي العبور الآمن نحو مرحلة مابعد 2019، بحيث تظل السلطة والثروة ممركزة في يد المجموعة نفسها، حتى لو احترمت “الشكليات الدستورية” عبر امتناع الرئيس عزيز عن الترشح لولاية ثالثة، وهو أمر بات في شبه المؤكد..
مسرحية الإلهاء هذه، تتنوع فصولها وتأخذ أبعادا مختلفة اجتماعية وسياسية وحتى اقتصادية، فالهدف هو استنزاف الفعل المعارض (التقليدي والشبابي) ومنعه من التفرغ لبلورة استراتيجية واضحة للدفع بمرشح قادر على تحدي مرشح المجموعة الحاكمة لمرحلة مابعد عزيز، وهي مهمة تبدو ناجحة حتى الآن، فمن يتابع حالة المد والجزر التي تعتري أنشطة منتدى المعارضة، وسيل الحبر الافتراضي المسكوب في قضايا لا تبدو ذات أولوية سيدرك أننا سنفيق على الاستحقاق الرئاسي المقبل وقد أخذنا على حين غرة، بحيث تكون محاولة النزال حينها أشبه بعمل “دونكوشوتي” لا يقدم ولا يؤخر، بعد أن يكون النظام ومجموعته الحاكمة قد “رتبت كامل البيت” ووضعت كل الخطط اللازمة واستخدمت كافة الطرق التي تجعل مرشحها يعبر بسهولة..
إجهاض مجلس الشيوخ للتعديلات الدستوررية، وإصرار النظام على الذهاب إلى استفتاء شعبي لفرضها، والجدل الإعلامي والسياسي الصاخب الذي صاحب ذلك، ومازال مستمرا حتى الآن، كلها أمور ستساهم بلا شك في إضفاء تشويق أكثر، على مسلسل الإلهاء هذا، ولعل التأجيل المستمر لموعد الاستفتاء، والذي قد لا يأتي أبدا، دليل آخر أن النظام ليس حريصا على تمرير التعديلات نفسها بقدر حرصه على استمرار حالة الإلهاء والغرق في التفاصيل، حتى لا يتفرغ أحدد للتشويش على “الطبخة الكبرى”، طبخة ما بعد 2019، حيث سيبقى الرئيس عزيز لاعبا فاعلا (ربما يتولى رئاسة الحزب الحاكم)، على أن يخرج من القصر الرمادي ليخلف على الأرجح، رفيق دربه وقائد جيشه الجنرال غزواني(الذي أكدت مصادر مقربة منه أنه كان يرفض بشدة أن يكون مرشح السلطة، إلا أن إلحاح الرئيس عزيز مشفوعا برغبة واضحة من المؤسسة العسكرية الفرنسية جعله يغير رأيه)..
تصريحات الوزير الأول ولد حدمين الأخيرة، حول بقاء النظام، والتي فهم منه الحديث عن مأمورية ثالثة للرئيس عزيز تأتي في سياق دراما الإلهاء المستمرة هذه، والهدف الفعلي منها هو توجيه الأصوات والجهود المعارضة نحو المعركة الخاطئة، وخلق حالة إرباك، حتى داخل مشهد الموالاة نفسه، الذي بدأ يعصف به بعض التمرد على الرئيس الحالي والتطلع لمعرفة الرئيس القادم ..
الانفجار الاستثنائي في الأشهر الأخيرة للحديث عن قضايا الوحدة الوطنية، والتنابز القبلي والجهوي المستعر على صفحات الواقع الافتراضي، كلها أمور تخدم، عمدا أو بشكل عفوي، رغبة النظام في أخذ الموريتانيين ، نخبا وبسطاء، إلى معاركة وهمية وجانبية بدل الاستعداد للمعركة الأهم ألا وهي تكريس التناوب السلمي للسلطة، والذي بدونه ستبقى كافة محاولات الاصلاح السياسي والاقتصادي والمجتمعي “حرثا في البحر”، لا يسمن ولا يغني من جوع..
*كاتب وإعلامي موريتاني
[email protected]