"مقاربة" شاملة للأزمة في شمال دولة مالي: من بواكير الانتفاضات الشعبية إلى قيام الإمارات الجهادية، هو العنوان المركب الذي اختاره المؤلفان، الوجيه والوزير السابق الدكتور عبد الله ولد سليمان ولد الشيخ سيديا، والكاتب الصحفي الدكتور محمد سالم ولد الصوفي. يقع الكتاب في ست وتسعين صفحة من الحجم المتوسط، وصدرت طبعته الأولى المتوفرة حاليا بالمكتبات عن مركز المدى بنواكشوط.
يبدأ الكتاب بتمهيد منهجي في مبناه تحذيري في معناه، فالمؤلفان لا يتوقعان نهاية قريبة، للأزمة المالية، ولا يقللان، من مخاطر انتشار تداعياتها، فانفجارها بعد خمسين سنة (من الضغط والمعالجات الأمنية الفاشلة)، يجعل شظايا الإنفجار وامتداداته تنداح بكل اتجاه عبر الحدود، مهددة الفضاءات الرخوة المحيطة والقابلة للاشتعال كالهشيم.
يشكل التمهيد مدخلا للجذور التاريخية، والإنسانية لأزمة مالي، ويعيد المؤلفان قسما من جذور الأزمة إلى تركات حضارات سادت وازدهرت، ثم اضمحلت، وإلى مخططات استعمارية عبثت بأوطان شعوب، وبجذور ساكنة مناطق شاسعة، من هذا الساحل الغامض، متجاهلة حقائق شعوبه العميقة، وتطلعاتهم الخاصة، نحو صيانة خصوصياتهم الثقافية والاجتماعية، وزادت تراكمات ممارسات أنظمة ما سمي بفترات الاستقلال البليدة، وانتهاجها للظلم سبيلا للحكم وإخضاع الناس من حدة الإختلالات، ومن عمق الأزمات، وأدت إلى انفجارات في منطقة أزواد، بدأت منذ ستينيات القرن الماضي، وظلت بركانا هائجا، يثور تارة، ويخبو أخرى... وظلت كل بواعث الانفجار والغليان تتراكم، وتتفاعل حتى كان الإنفجار الأكبر الذي بدأ يقذف حممه، وينثر "ماغماه" القاتلة الآن في كل الفضاء الإقليمي من حوله... وقد أدى ضمور الرؤى الإستيراتيجية للقادة والنخب، وشحة الموارد وانتشار الفقر والجهل وغياب الحكامة الرشيدة وانعدام الشورى والتشارك، وضعف الدول الوليدة في المنطقة، وما رافق ذلك من عوامل خارجية أنتجتها موازين القوى الجديدة في عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، أدى كل ذلك إلى تأزيم أوضاع فضاء يمتد من المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر والخليج العربي والمحيط الهندي. و في هذا الفضاء الملتهب شكلت مالي قاعدة مثلث التوتر، وشكل إقليم أزواد إحدى زواياه الحادة.
وفي سياق هذا الإنفجار، وهذا التوتر المتصاعد يعالج المؤلفان موضوع الثورات الأزوادية، ويعتبرانها بمثابة شرارة، ستشعل حريقا، يمتد لمناطق شاسعة في المنطقة... فهذه الثورات لم تتوقف منذ 1963، ولم يتوقف قمعها، وقد يكون الجديد هو تأرجح ميزان القوى، لصالح قوى الثورة والتمرد، بسبب تراجع دور الحكومة المالية، وتنامي قوى موازية صاعدة داعمة للتمرد، كالقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وعصابات التهريب، والإجرام العابر للحدود.
لقد أصبحت هذه القوى بفعل ما وقع بحوزتها، من ترسانة ملك ملوك إفريقيا الراحل معمر القذافي، أقوى من دولة مالي، وأستطاعت أن تهزم جيشها وتجعله خارج اللعبة، خلال أقل من ستين يوما، وأحدثت قطيعة مع الماضي، ورفعت سقف المطالب، لتصبح إنشاء إمارة إسلامية بالنسبة لأنصار الدين، ومن على شاكلتهم، واستقلال دولة أزواد، بالنسبة للحركة الوطنية، لتحرير أزواد، ومن سار في فلكها، من القوى التقليدية والصاعدة.
يخصص المؤلفان عناوين عديدة، لاستعراض خارطة القوى الاجتماعية والسياسية والعسكرية الفاعلة على الساحة الأزوادية، أو تلك المؤثرة والمتأثرة بها إقليميا، ويتحدثان عن ارتباطات كل القوى الداخلية والخارجية، ولا يفوتهما أن الأزمة، لم تعد أزمة شمال مالي، فالإنقلاب في الجنوب، خلق أزمة أخرى جنوبية، وأجهز على مؤسسات الدولة، واضاف أزمة على أزمة، مما جعل دول الجوار، والمنظمات الإقليمية، تبحث عن حل من رافعتين:
رافعة إعادة بناء مؤسسات دولة مالي المركزية المنهارة بصورة تشاركية وعلى أسس ديمقراطية تقوم على مقومات منها: بناء إدارة فعالة، وبناء جيش وطني جمهوري، يحترم مؤسسات الدولة، ويحمي الحدود.
أما الرافعة الثانية فهي رافعة الحوار المالي – المالي بتسهيل إقليمي ودولي، وبدور متفق عليه لدول الجوار، التي يرى المؤلفان أنه يتعين عليها أن تتدبر الدرس المالي، وتعيد النظر في بناء جبهاتها الداخلية، على أسس سليمة، وترتب حكاماتها الداخلية كي تعصم شعوبها من طوفان الحروب والتفكك، كما أنه يتعين عليها الامتناع عن التدخل في الشأن الداخلي المالي، كي يتمكن الماليون من تجاوز محنتهم المتراكمة التي يرى المؤلفان أن تجاوزها، يبدأ ببناء الثقة، والتفاوض، بشأن حل مقبول سقفه السياسي (لا مركزية حاذقة) أو حكم ذاتي موسع، ومحتواه خطة "مارشال" جديدة، تمكن من خلق إطار أفضل للحياة، ومن تلبية مطامح السكان الأساسية في العيش الكريم على أن يتم كل ذلك بمواكبة دولية، وبرعاية إقليمية لا تقصي أحدا، وتفضي إلى نزع فتيل أزمة، من شأنها أن تحرق الجميع إن هي استمرت، أزمة كان لها ما قبلها وسيكون لها ما بعدها، أزمة باتت مفتوحة على كل الاحتمالات.
وبصورة عامة فإن الكتاب يبدو كما لو كان عرضا ممنهجا، مكونا من مقاطع وفقرات يفضي بعضها لبعض بأسلوب سهل، ولغة جزلة وقوية الدلالة مشحونة بالمعاني الحافة والجافة.
كذلك يتميز الكتاب بآنية مواضيعه، فهو عمل إعلامي ثقافي، توثيقي يسبر أغوار ثوابت أزواد، ومتغيراته، ويرصد اتجاهات الرياح الإقليمية والدولية، ويستشرف مخارج توفيقية تلفيقية تصون ماء وجه كل الفرقاء، الظاهرين والمتسترين، وتوفر لهم وللماليين مخارج، تضمن عبورا آمنا لمالي، ولمنطقة الساحل والصحراء، نحو بر أمان ديمقراطي تنموي، يجد فيه الجميع أنفسهم.
لقد وفق الباحثان في تقديم عصارة فكرية سياسية اقتصادية اجتماعية تاريخية، مغرية تضع بين يدي قراء العربية ما يحتاجونه من معلومات عن مشكل أزواد، بكل تجلياته وأبعاده، وقد وفقا في إثراء المكتبة العربية بكتاب بسيط في مظهره وشكله، عميق في معانيه ومراميه، وهو لعمري كتاب يستحق القراءة أكثر من مرة.
لقد قدما مشكل أزواد على شكل وجبة سريعة دسمة وساخنة، مكتملة العناصر، مفعمة بالبهارات الإجتماعية وبالتوابل الحضارية، مطعمة بالرؤى والتصورات الإستشرافية، فلهم جزيل الشكر، ونحن في انتظار المزيد من هذا الثنائي الأصيل المبدع.
الرأي المستنير