لا ريب أنه لا توجد حالة استعجال للتعديلات الدستورية، ولا فراغا دستوريا يتعلق بمؤسسات ضرورية يتعين سده، ولا توافق سياسي وإجماع وطني يخول القيام بهذه التعديلات، فالدستور نظام تأسيسي ثابت لا يمس في ظل الخلافات والأزمات السياسية، بل يشترط لتعديله انعقاد الإجماع عليه، بعد التأكد من ضرورة التعديل والحاجة الماسة إليه، فلقد جربنا مرارا الانتخابات التي لم تكن محل إجماع، والحوار المختلف عليه، وكان ضررهم في كل مرة أقرب من نفعهم، والتعديلات الدستورية في ظل الخلاف أكثر خطرا، وأشد أثرا، بل أكثر من ذلك سترسخ منطق الغالب والمغلوب، وروح الصراع والمغالبة، وهو ما لا تحمد عقباه ولا تتوخى منه مصلحة، فالبلد للجميع لا يمكن الاستئثار به ولا خصخصته.
فالأولى إذا أن نعكف على وضع قواعد اللعبة الديمقراطية، وضمانات الشفافية، بما يضمن تحقيق انتقال سلس للسلطة، مجمع على قواعده وظروفه، لا يستأثر به طرف دون طرف، فمستقبل البلد للجميع، وبذلك وحده تدخل موريتانيا نادي الدول ذات المصداقية في إفريقيا.
إن بلدنا اليوم مقبل على منعطف تاريخي ينتظر منه أن يطوي صفحة ويفتح أخرى، فنحن أمام وضعية فريدة، وفرصة ثمينة، يتعين استغلالها، أمام مأمورية رئاسية غير قابلة للتجديد، ولأول مرة في تاريخ البلد مما يحتم تغيير طريقة التسيير، طريقة التعاطي مع مشاكل الوطن والمواطن.
لذلك يجب علينا جميعا العمل على النهوض بالبلد، وطي صفحة الماضي، ولا يكون ذلك إلا بأن نكون فاعلين في شؤون بلدنا، وألا نبقى في قمقم المفعول بهم، حتى نحقق القطيعة مع الممارسات التي جعلت المواطن إما غائبا عن الاهتمام بالسياسة بفعل إحباطه ويأسه من الوضع، وإما مغيبا بفعل سياسة تقوم على الصراعات والتنافس.
من أجل ذلك يتعين أن يكون تعاملنا مع الوضعية الحالية بمنطق يقوم على المحددات التالية:
1-أنه لم يعد من المقبول ولا المتأتي ولا الممكن طرح تجديد المأمورية ، لأن القانون يمنعه، والدستور يحول دونه، فضلا عن أن انتشار الوعي في صفوف المواطنين، والوضعية الإقليمية والدولية لم تعد تقبل بذلك.
2- أن نظرية الاستخلاف على السلطة أو التوكيل عليها، أخطر على الديمقراطية من الدكتاتورية نفسها، لأنها ستشكل دكتاتورية مقنعة، وتمييعا للمبادئ الديمقراطية وإفراغا لها من محتواها، فضلا عن أنها نظرية تحمل في طياتها الكثير من الاستخفاف بالشعب، بل واحتقاره، فقد وصل شعبنا مستوى من الوعي لم يعد ممكنا معه ولا مقبولا أن يخضع للوصاية، أو أن يفتح المجال لقبولها.
3- أن أحسن ما يمكن لمن في السلطة اليوم فعله، هو إكمال مأموريته الدستورية بتهيئة الظروف وخلق المناخ الذي يسمح بالانتقال السلس الشفاف للسلطة، وبهذا المنطق نحن نرفض استراتيجية "ارحل" وفكرة "انسحب"، ونرى ضرورة أن يكمل النظام فترته، لكن دون أن يزيد على ذلك بيوم واحد، ليس ذلك لسواد عيون النظام وحمايته، ولكن لأن مبدأ عدم المساس بالمأمورية مبدأ ديمقراطي يتعين الوقوف عليه واحترامه و إذا كان تمديد المأموريات أو زيادتها غير دستوري وغير قانوني، فإن العمل على نقصها أو الحد منها قسريا ليس دستوريا هو الآخر ولا قانونيا.
4- أنه مهما كانت انتقاداتنا على النظام، ومآخذنا عليه، لا نرضى بحل يأتي من خارج الشعب، فأي حل –مهما كان- يجب أن يكون من صنع المواطنين وتصميمهم، فقد آن الأوان ليكون المواطن حاضرا مساهما في تدبير شأنه، وقد نضج بما يكفي ليتحمل مسؤولياته بنفسه دون وصاية، ومن باب أولى نرفض أي حل يقوم على الانقلابات العسكرية، لأنها تنافي الديمقراطية وتعيدنا للمربع الأول، ومن هنا يجب أن يدرك جيشنا نبل مهمته وشرفها، والتي هي توفير الأمن و الدفاع عن حوزة البلد ورعاية الديمقراطية وحمايتها، دون خوض غمار السياسة.
5- أن ندرك ويدرك النظام أن هذه الفترة لا تخصه وحده، فبقدر ما يقدم رجلا إلى الخارج من أجل مغادرة السلطة يقدم غيره رجلا للدخول إلى قمرة القيادة، مما يحتم إدراك مساحة المشترك، والعمل على مساهمة الجميع في تحضير الفترة القادمة، بحكم كونها شأن الموريتانيين جميعا، ويتعين أن توضع قواعد اللعبة من الآن، وبشكل توافقي مشترك حتى نضع الخارطة بصيغة موضوعية لا تشكل عائقا أمام أحد و لا وسيلة لأحد و نضمن تحييد معوقات التناوب السلمي بشكل حاسم حازم.
ولقد سعت القوى المعارضة ومنتدى الديمقراطية والوحدة في مرحلة معينة لمد يدها للنظام بغية العمل المشترك على تهيئة هذه المرحلة، وتجسيدا لذلك استجابت لكل دعوات الحوار وسعت لتسهيله، بل سمح المنتدى لقياداته وأحزابه بمواصلة اللقاءات السرية وغير الرسمية من أجل فتح هذا الباب، لكن للأسف لم تثمر تلك الجهود.
ومن هنا يكون التفكير في وضع آليات المرحلة كمرحلة انتقالية تحضيرية أولى من خوض غمار تعديلات غير ضرورية وغير مستعجلة.
لذلك نعيد ونكرر إنه لا ينبغي ولا يجوز ولا يمكن منع الموريتانيين –كل الموريتانيين- من المساهمة في ترتيب شأنهم بأنفسهم، وأن يكون لهم موطأ قدم في تهيئة المرحلة القادمة كي لا نضطر لطلب الإشراف الدولي عليه يتعين اعتماد مقاربة تعتمد على المساهمة والمشاركة بدل الاكتفاء بالتأسف، وكفكفة الدمع اتجاه واقعنا، فالأمل في بلدنا قائم وواقع، وخيرات البلد وافرة، مقابل ساكنة لا تتجاوز 4 ملايين نسمة، مما ينفي ويدحض أي مبرر لتنامي الفقر والجهل والبطالة و انعدام المساواة، فالبلد قادر بكل تأكيد على توفير الرخاء والرفاهية والحرية والمساواة لمواطنيه، إذا ما تم تسيير مقدراته بحكامة راشدة.
وما ينقص فحسب هو أن يكون أهله فاعلون غير مفعول بهم، "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
الأستاذ أحمد سالم ولد بوحبيني