البلدان المأزومة ثقافيا ومجتمعيا، بفعل تركة الاستعمار ونتائج التسلّط، لم تخرج من عنق الزجاجة إلا بالحوار الوطني العام الجدي والصريح من دون سقف إلا ثوابت الأمة وسيادة الوطن.
كلما اجتمع الموريتانيون من أجل حوار جدي، يجدون أنفسهم أمام "أيام تشاورية" موجّهة أو "حوار وطني" مسرحي يغيب عنه معظم الفاعلين السياسيين والمدنيين.
إن العجب ليأخذ على النفس أقطارها وهي ترقب حالا عجيبا بائسا يجعل نظاما متسلّطا ومهيمنا يرفض الحوار مع مواطنيه المعارضين ويخشى الفصل في أمور جامعة حلّها توافقيا قد ينقذ بلدا برمته من أخطار كارثية.
والحق أنه من السذاجة الاعتقاد أن النظام الحالي المتسلط والفاسد جمع المتحاورين على قلتهم من أجل إضافة شريطين دمويين إلى العلم الوطني وزيادة نشيد التوحيد بأبيات سقيمة! إن الهدف أبعد من ذلك إنه جزء من خطة التمكين التي ستظهر عواقبها في قابل الأيام ويومئذ يخسر المبطلون.
أليس من الوقاحة الحديث عن "تكريم المقاومة" بشريط أحمر على العلم الأخضر، بينما لا تحظى اللغة العربية بأي اعتبار لا في الإدارة ولا في التعليم ولا حتى في الخدمات العامة العادية.
ما هذه الوقاحة، وما هذا الاستخفاف بعقول المواطنين وكرامتهم؟، إن الذي يعجز عن تعريب فاتورة الكهرباء والماء لن يستطيع خداع المواطنين بحرصه على مقاومتهم وجهادهم الذي سقط رجاله الحقيقيون في سبيل اللغة العربية وعقيدة التوحيد قبل أي شيئ!
والأدهى من ذلك والأمر أن النظام يخشى الأقلية المفرنسة، عربا وزنوجا، ويتردد بل وينكص على أعقابه حتى من مساواة اللغة العربية مع اللغة الأجنبية في التعليم والإدارة، لأن اليد العليا هي لتلك الأقلية أما السواد الأعظم فليس شيئا مذكورا لأنه منقسم على نفسه وهو محل اتهام وشكوك النظام الذي لا يقيم وزنا لمعظم المواطنين بل يحسب ألف حساب للأجنبي وأذنابه، إنه في النهاية مثل هؤلاء، ليس من فرق.
هل يمكن تصور وجود سلطة تمتلك ميليشيا مسلّحة ومُخْبرين كحبات الرمل وأيادي قذرة متوحشة، ثم تعجز عن فرض الحد الأدنى من القرارات الضرورية لصون الهوية الوطنية والمصلحة العامة، وحتى إذا مالت إلى تلك الخطة قليلا واجهت عنتا شديدا من المتمردين على الأمة والملّة والذين لا يخشون بعد ذلك بأسا ولا رهقا، إنهم فوق القانون، أما الاحتجاج بضغوط أجنبية فهو كذب صراح، وإلا فلم ألغت بوروندي الخارجة للتو من المذبحة الدموية، اللغة الفرنسية واستبدلتها باللغة الإنجليزية، ولم تسقط السماء عليها كسفا، لاسيما وهي لا تمتلك لسانا وطنيا، بينما نملك نحن أهل موريتانيا لسانا مبينا هو ملح الأرض منذ ألف سنة.
موريتانيا ربما هي البلد الوحيد الذي يخجل حكّامه من لغتهم وثقافتهم، ثم لا يكلّون من الحديث العاطفي الكاذب، في المجالس الخاصة، عن ولائهم العميق لتلك اللغة والتراث.
والأعجب من ذلك أن حكام موريتانيا لا يستطيعون إظهار شيئ من العزة والكرامة تجاه الأجنبي بينما يفعل ذلك أضرابهم في بلدان إفريقية أضعف بكثير، ثم لا ينالهم سوء ولا ضر! وبالمقابل يزور حكام الغرب ولاسيما أوروبا تلك البلدان صباح مساء ويرفضون أو لا يهتمون بهذا البلد حتى ولو بزيارة عابرة، ثم يتفنن أبواق نظام موريتانيا في الحديث عن رفض تلك الزيارات لأنها تمس بالسيادة التي لا توجد ابتداء لأنها منتهكة في أكرم مواضعها: اللغة الوطنية.
والسؤال الكبير ما الذي كسبه الموريتانيون من الاستقلال؟ أليست اللغة الفرنسية هي سيدة الموقف في الإدارة والتعليم والجيش والاستخبارات والأمن العام والمال والدبلوماسية، ما يجعل غالبية الموريتانيين خارج اللعبة فعليا، ويجعل الأمن القومي لبلدهم مخترقا من كل الجوانب.
هل هناك بلد في المعمورة يجتمع مواطنوه للحوار وبناء عقد وطني جديد، ثم تقتصر مخرجاته على تغيير علم لا شيّة فيه ونشيد لا مطعن فيه، بينما تُحْكِمُ اللغة الأجنبية "الاستعمارية" قبضتها على الإدارة والتعليم والحياة العامة، يحدث ذلك بعد زيد من 60 سنة على الاستقلال، فما الذي كسبنا بعد تلك المدة ومرور تلك الفترة الطويلة.
لقد كان الأولى أن نبقى في ظل الحكم الاستعماري، لأنه لم يغادرنا البتة، وليكون عملنا مع لسانه وإدارته مباشرة وليس من سبيل أدنى وأضعف مع متعلمين منبهرين هم مجرد نسخ كربونية شاحبة.
اللغة العربية مقصاة عمليا من الشأن العام، وتسيطر على الإدارة العمومية والتعليم والتربية.
الخريجون بالعربية مقصون بمختلف السبل بل وتفرض عليهم فرنسة مقززة حتى في مؤسسات خدمية مثل الكهرباء والماء والمالية.
وهم يتضورون جوعا ومرارة على أبواب الإدارة العفنة وعلى شوارع العاصمة يتكففون العموم ويتسولون وظائف يقتاتون منها، بينما تمر بهم مئات السيارات الفارهات المشتراة من مال الله الذي آتاهم واختطفته "الأقلية الفاسدة" الحاكمة التي تتفنن في صرف الأموال الكثيرة في وجوه لا أهمية لها.
لا يفهم هؤلاء المُعطّلون أنهم يواجهون حربا من جبهتين: جبهة ثابتة وهي الحرب على اللغة العربية، وجبهة متحركة وهي التجويع والحصار لكسر كرامتهم وتحويلهم إلى أرقام قابلة للتلاعب والتوجيه المخابراتي والزبوني.
البنك المركزي لا يتعامل باللغة العربية ويقصي المعربين، بل إن حاكما سابقا، سيئ الفعل والقول، لهذا المصرف أصدر بيانا رسميا يرفض استقبال ملفات الخريجين بالعربية، هكذا بكل وقاحة ودناءة، سيدفع ثمنها ذات يوم.
الأقلية المفرنسة، وغالبتها ضعيفة التكوين، تفرض أجندتها على الإدارة والمؤسسات العمومية وشبه العمومية، أما البنوك فهي قطاع من معاقل الكراهية لكلما هو عربي وإسلامي ووطني
الثقافة ملف ملغوم في نظر زمرة المُخْبرين الكبار الذين يحلّون ويعقدون ملفات البلد، ولذلك فيقتصر العمل الثقافي على نشاطات فولكلورية تافهة أو زبونية مقززة.
تدبير الملف الثقافي في كل بلاد العالم عمل له قواعده ونظامه يتم تدريجيا بعد تسوية "المسألة الثقافية" بشقيها اللغوي والتعليمي، ليتم تدبير الملف الثقافي علميا ومؤسسيا وفق قواعد معروفة، بينما تعتبر الثقافة في هذا البلد مجرد ديكور ميت، يسيره في الغالب أشخاص لا يتمتعون بأية كفاءة أو مصداقية. ولذلك لم يعد هناك شيئ يسمى مكتبة وطنية أو متحفا أو أرشيفا أو حتى مسرحا، حتى أن ما يسمى جائزة شنقيطي وصلت حدا من تردي المستوى لم يسبق له مثيل، وتحكمها رئاسة انتقائية تنقصها الكفاءة والموضوعية.
هذا الذي جرى ويجري ليس حوارا وليس وطنيا، إنه بكل بساطة، مسرحية من فصول هزلية ستنتهي قريبا بخديعة كبرى لكنها لن تنطلي على أحد لأن البلاد مقبلة على انقسام سياسي عامودي وربما تغيير جذري لا يعرف مداه، في ظل نظام لم يعد بمكنته حفظ الدماء والأعراض وقد يناله قطّه من عذاب الفتن القادمة من المشرق في القابل أو أمواج المحيط التي ستغمر كل شيئ في بضع سنين.
ولله الأمر من قبل ومن بعد