لطالما كانت كل الزيارات التفقدية التي يقوم بها الرؤساء – ولا أتحدث عن موريتانيا التي لا تمتلك رئيسا بل عسكريا منقلبا – لطالما كانت من أجل الإطلاع على أحوال المواطنين، وأي أحوال يطلع عليها في الشرق الموريتاني، يكفي أن تنظر إلى حال المركز لتعرف حال الأطراف ، أمراض و فساد، جوع وعطش ، أسعار مرتفعة و جيوب تنتفخ، هكذا فقط هو الحال لمن يريد أن ينظر إلى جسمه العاري دون أن يبحث عن ما يتدثر به من النفاق والكذب و الإنجازات الواهية.
إن المجتمع الموريتاني – المنافق بطبعه على سبيل التخصيص – مجتمع يجتر الإهانات والمآسي في سبيل جنرالات همهم الوحيد هو الإستيلاء على كل مقدرات الدولة الموريتانية، مستخدمين في ذلك مجموعة من الببغاوات التي تجيد التقليد القبيح والتصريح المشين، ولا تدري - أو ربما تدري - أننا نلعنها في سرنا وفي جهرنا ، شخصيات همها الوحيد تكريس الفشل الذي يطبع أغلب مناحي الحياة في هذه الدولة المبتلاة بأمثالهم.
كنت حينذاك فتا يافعا حينما زارنا معاوية ولد سيد احمد الطايع ، وكانت الظروف الإقتصادية صعبة ساعتها ، و حري بالقائمين على شؤوننا في تلك الفترة أن يظهروا مدى صعوبة الحياة و عدم وجود أي نشاطات اقتصادية مدرة للدخل من أجل تغيير حياتنا للأحسن، لكن ما حدث هو العكس تماما، حيث حرصوا بإخلاص على عدم إظهار أي قصور من الناحية المظهرية وتم تشييد منصة للزائر و طلاء المنازل المجاورة وتنظيف المدينة التي لم تنظف قط من قبل، وصل معاوية وبدأ الصراع حول من سيدخل عليه و احتدم الصراع وانفعل آخرون و في النهاية كان أبرز مطالب أهم الشخصيات التي قابلت معاوية هو ترشيحه من طرف الحزب الجمهوري لمنصب بلدية المدينة وكان له ذلك. تصوروا معي مدى فداحة مطالب سكان مدينة ينهشها الفقر والعوز المادي ساعتها.
تذكرت هذه الأحداث حينما بدا يتراءى أمامي سيل من السيارات والأشخاص يتوجهون إلى الشرق الموريتاني مرددين عبارة هي أكره شيء سمعته في القاموس السياسي التعيس لمنافقي ومتملقي النظام ، ألا وهو عبارة ( إنجاح زيارة – الجنرال- ) ، أي إنجاح و أي زيارة أيها المتخلفون، الجنرال ومقربيه سرقوا أموالكم ولا يزالون يفعلون ذلك، أي إنجاح وأنتم الذين يخنقكم العطش صباحا ومساء، أي إنجاح والدولة الموريتانية تنهشها عصابة حولت خيراتها إلى حسابات خارجية ككل الأنظمة العسكرية الإنقلابية في التاريخ كما يقول " نيكولاس شاكسون " مؤلف كتاب ( مافيا إخفاء الأموال المنــهوبة ) أو كما جاء بصيغة أخرى في كتاب (الفساد سبيلا للاستيلاء على السطلة و الحفاظ عليها) لمؤلفيه بروس بيونو دو مسقيتا والستير سميث، وهما كتابين يغوصان في نفسيات القادة العسكريين المستبدين الذين يحولون أموال دولهم إلى حسابات خاصة خارجية.
إن موريتانيا التي سلمتها فرنسا طواعية سنة 1960 لشخصيات موريتانية تابعة لها تعرف العديد من القلاقل والفوضى لم تستطع لحد الساعة التغلب عليها بل ظلت تتعاظم وتتفاقم إلى أن وصلت لأوجها نهاية الثمانينات فيما يعرف بأحداث 1989 وهي أحداث يسأل عنها العسكر الذين أمسكوا بالسلطة خلف معاوية ولد سيد احمد الطائع وزبانيته.
إن كل هذا الفشل المتراكم والذي نتج عن عدم قدرة القادة العسكريين المتعاقبين ضيقي الأفق وبالتحالف مع زعماء القبائل التقليديين المتخلفين على إدارة الدولة الموريتانية بعدل هو ما حدى بنا إلى البقاء في المربع الأول حيث نتحدث عن إنجاح الزيارات و الحشد لها وتبديد أموال الدولة في سبيل أشخاص يجب أن يستقبلوا بالضرب على القفا حتى يعودوا من حيث أتوا وأنتم أدرى بذلك.
وبالمحصلة يمكننا القول إن تحالفا شيطانيا بين العسكر وشيوخ القبائل يعرف بالدولة العميقة هو المستفيد فقط من الزيارات الكرنفالية التي لا تزيد الأمور إلا تأزما ، و أن الدولة التي يحكمها شيوخ القبائل القابعون في الصالونات و الذين يستشارون في أمور تخص مجتمعا غير متجانس ينظرون إليه نظرتهم إلى قبائلهم وأسرهم لا يمكن أن يتقدم ولا أن يتطور، ودعوني هنا أقول أنه لا يمكن فصل قضية " لحراطين " التي يعرف القاصي والداني كيف يصرح تجاهها الشيوخ التقليديين في بيوتهم المغلقة والتي تتسرب إلى العلن بين الفينة والأخرى، لا يمكن فصلها عن الفشل الأخلاقي و موت الضمير الذي يعانون منه.
إن مجتمعا هشا كالمجتمع الموريتاني حري به الإتجاه أولا صوب معالجة الإختلالات البنيوية التي تطبعه وتوجيه مقدرات الدولة الموريتانية لأجل ذلك بدل تبديدها في زيارات غبية الضرر الناجم عنها اقتصاديا واجتماعيا وأمنيا أكثر من الفائدة المترتبة عليها وما تقوم به المجموعات القبلية والجهوية من حشد وإنفاق في غير حق لا يعدو كونه فشلا أخلاقيا ذريعا لموريتانيا.