كيفه في ذاكرة التاريخ ؛ عنوان محاضرة للدكتور محمد المختار ولد سيد محمد وقد نشرناها من خلال حلقات والآن ننشرها كاملة كما وعدنا القراء.
المحاضرة
المجال والسكان:
يعود تاريخ إسكان الحيز الجغرافي الذي تشغله لعصابه اليوم إلى عهود غابرة تنزاح عبر القرون إلى العصور الحجرية القديمة، والساعي إلى تلمس معالم تاريخ هذه الولاية يواجه إشكالا منهجيا مرده مرونة المجال المدروس تبعا للظروف الطبيعية، وصراع الإرادات السياسية، ودوائر تأثير السلط الروحية، وإغراءات الموقع الاستراتيجي المتحكم في المحاور الجنوبية على امتداد خط التماس بين حضارات الصحراء والممالك السودانية المرابطة على التخوم الجنوبية.
وتوحي الرسوم والآثار المادية والموجودات الخزفية في الكهوف وقمم التلال وسفوح الجبال وعلى جنبات الأودية في ارقيبه وسلسلة لعصابه وآفلة أن هذه المنطقة كانت مسرحا لحضارات بشرية عايشت حضارة آو كار وتشيت إن لم تكن جزءا منها، بحكم المشتركات المادية والتجاور والوظيفة المكانية.
ولئن كنا في موقع الحسم بشأن وجود عمران بشري يناسب طبيعة ومتطلبات ذلك العصر، فإننا نكون أكثر حذرا حين الحديث عن أصول تلك الساكنة، ومن أين جاءت تحديدا، وضمن أي نسق اجتماعي يمكن فرزها وتصنيفها، على أن ما يهمنا التركيز عليه هو الثابت وليس المتغير، وأقصد الأرض بمعالمها وعطائها، وإن اختلف الساكنون، ذلك أن الحضارة في أبسط تعريفاتها هي حاصل المجهود الذهني والعمل المادي لمختلف الأمم عبر الزمن ولا مجال فيها للإقصاء مادامت تعتمد التراكم والتكامل.
وفي غياب دراسة متقدمة في علم الانتروبولوجيا الاجتماعية تحسم الأمر بطريقة علمية مقنعة لمن يستهويه علم السلالات والأنساب، يمكن القول تجوزا إن التوبونيميا
المحلية توحي بتعدد الأقوام الذين عمروا هذه المنطقة وسيروا هذا المجال الجغرافي عبر تاريخه الطويل ومصداق هذا الرأي أن سكطار وكرو واجنكه وجوك وديسق وكنكوصه وكنديكه وامبرواق وتبادي أسماء صوننكية.
في حين يعد أبزار وآمرجل وآفطوط وآقواويت وآمرش وآكرراي وتاهميره وتامشكط والتقاده تسميات بربرية، أما الغايره ولقران والملقه وبوقعاره ومقطع اسفيره وبوملانه وبلمطار وأم اشقاق ولمسيله والمنصور والسلطانية ولمنيحر وبلاعه وبومديد وغيرها فهي أسماء عربية بلا خلاف. وهذا ما يعزز الفرضية التي أشارت إليها بعض الدراسات والقائلة بتعاقب هذه المجموعات البشرية الثلاث على إدارة هذه المجال.
واستنادا إلى ما تقدم يبدو الحديث عن تزامن هذه المجموعات غير وارد نظرا إلى عدم اشتراك أي منها في اسم واحد، وتوزيعها عبر المكان مما يجعلنا نميل إلى الاعتقاد أن الذين أطلقوا هذه الأسماء هم من السكان القارين، وليسوا من الراحلين بدليل أن هذه المواقع ليست على محور واحد.
ويجمع أغلب المؤرخين على أن الغالبية العظمى من قبائل لعصابه اليوم هي من المجموعات الحميرية التي عمرت الصحراء خلال العصر الوسيط في إطار الهجرات التي جاءت من جنوب الجزيرة العربية، وشكلت هذه القبائل الحلف اللمتوني الذي قاد الملحمة المرابطية خلال القرن الحادي عشر الميلادي، وقد تعززت هذه البنية الاجتماعية ابتداءا من القرنين الخامس عشر والسادس عشر بمجموعات مغفرية منها أولاد أمبارك وأولاد لغويزي، ومجموعات لقلال وإدوعلي القادمين من شنقيط، ومجموعات إدولحاج القادمة من وادان، وتجكانت القادمين من تنيكي،ومسومه، ومجموعات إدوبسات القادمة من آبير وتيرس، ومجموعات أخرى مثل الجعافرة القادمين من السهوه، والطلابه السباعيين، و القلاقمة، وأهل مولاي الزين وأهل الشريف أحمد الولي القادمين من الشمال، وغيرهم.
وفي هذه الربوع قامت وازدهرت حواضر علمية في تكبه وقصر السلام أسست على التقوى من أول يوم على يد أساطين العلم والصلاح من أضراب الطالب صديق الجوماني، ومحمد بوكسه والطالب مصطف ولد الطالب عثمان والطالب أحمد ولد الحاج الأمين، وشكلت هذه المراكز محور الصناعة المعرفية، وتعزيز اللحمة الاجتماعية، ومثلت معينا نهل منه صفوة علماء المنطقة أمثال الشيخ سيد المختار الكنتي، والمرابط سيد محمود الحاجي، والشيخ سيد الأمين الجكني، والطالب مختار البصادي، وأحمد المقري العلوي، ومحمد ولد الطالب عيسى المسومي وغيرهم.
وعلى المستوى السياسي دانت المنطقة عبر تاريخها لدول وإمارات ومشيخات مختلفة، ومثلت محور استقطاب إقليمي بحكم موقعها الاستراتيجي، وثقلها الاقتصادي، ومكانتها السامقة في الذاكرة الثقافية، فخضعت لإمبراطورية غانه قرونا قبل أن تصبح جزء من مملكة أوداغوست الصنهاجية، ثم سيطرت عليها الجيوش المرابطية خلال القرن الحادي عشر الميلادي، قبل أن تصبح ضمن مجال إمبراطورية مالي الإسلامية، وخلال المرحلة الحديثة كانت المنطقة ميدانا لتنافس محموم بين أولاد أمبارك وإدوعيش وهو صراع حسم لصالح إدوعيش على عهد الأمير محمد ولد أمحمد شين الذي قاد الإمارة عصرها الذهبي ، ورغم انفراط عقد هذه الإمارة بوفاته سنة1236، فإن المكونة الجنوبية ممثلة في اشراتبت ظلت تدير جزء كبيرا من المجال وتتقاسم النفوذ مع أرستقراطية أهل سيد محمود ذات الوزن السياسي والاجتماعي المحسوس حتي مطالع القرن العشرين حينما وضعت فرنسا يدها على عموم الإقليم، حيث عرفت المنطقة تحولا نوعيا تمثل في تأسيس المراكز الحضرية الجديدة استجابة لإكراهات المرحلة الاستعمارية، وما تقتضيه من إعادة رسم الو لاءات وترتيب الأولويات، وفي هذا السياق يتنزل تأسيس مركز كيفه.
ثانيا: كيفه من معطن إلى مركز
كثيرا ما أحيطت روايات تأسيس المدن بجدل كبير مرده اعتماد المصادر الشفهية، واختلاف المرجعيات، والو لاءات اللاحقة، في نظام قبلي بامتياز، وكثيرا ما اختلف في تأصيل التسمية تبعا لذلك، ومن هنا لم تكن كيفه بدعا من تلك المدن التي تتضارب الروايات بشأن أصل تسميتها، وإذا كان البعض يحاول ربط ظهور الاسم بأحداث تأسيس المركز مستندا إلى قصة الحفار الذي كان يردد عبارة كيفه كيفه في سياق إشعار الفرنسيين أن البئر الثانية هي مثل سابقتها في الملوحة، فإن الشواهد التاريخية تؤكد قدم التسمية، وإن اختلف المسمى، وتقول الرواية الشعبية إن شكل الوادي هو مصدر التسمية لأنه يشبه في تعرجاته (الكيفه) التي هي عبارة عن ألياف مضفورة من جذوع الأشجار تصنع منها الحبال.
وقد وردت في المدونات المحلية، و الكتابات العربية، وفي مذكرات القادة العسكريين الفرنسيين وفي خرائطهم
ولعل أقدم إشارة إليها، وصلتنا، كانت للشاعر سدوم ولد انجرت في سياق تحديد المجال الغربي لإمارة أولاد أمبارك ، حيث يقول:
كرو وكنديكه وبزار وكامور أهذا ك المطراح
أكيفه واسويح فنوتار وولول ووهام والبحباح
وكرني وامحاوز لبيار ذوك أديار أولاد الفحفاح
ويعاود الحديث عنها مرة أخرى، في سياق مرثية فارس أولاد لغويزي سيد أحمد ولد امحمد، دفين سور ملي حين يقول:
كفات ظرك العربي خلات في الخط الكبلـــي
قلظ اسمع والمزي فامسيلت سورملي
ابكات كيفه ووطنه م سايــــل امنادم عنه
وانتاكات أمعطنه ولا ورد جاهم مدلــــي
أذيــــك ما نل عنه ابكات وابكات تكبه ونعلي
و ذكرها صاحب الوسيط بقوله إنها: ’’إنها بئر مشهورة ماؤها مالح، وهي من مناهل الإبل التي تنعم بشربها فيكثر لبنها، وهي ملقط عظيم للصمغ’’.
وعرفها الباحث اللبناني محمد يوسف مقلد قائلا:’’ إنها بئر مشهورة، ماؤها مالح وهي من مناهل الإبل التي تنعم بشربها، ويكثر لبنها، وهي ملقط عظيم للصمغ، وأمراؤها من أهل سيد محمود’’.
وأشار إليها فرير جانه في كتابه:ESSAI HISTORIQUE قائلا ’’إن الفرنسيين هم من أطلق اسم كيفه على أحسي باب نهاية سنة1906’’، دون أن يفصل الحديث عن السياق العام، وذكرها مؤلف موسوعة موريتانيا المختار ولد حامدن’’ كمعطن من معاطن أرقيبه، ومسرح لمعركة بين أولاد غيلان وأهل احجورسنة 1911’’.
وأفرد لها الأستاذ إسلم ولد محمد الهادي مبحثا موجزا في كتابه الموسوم موريتانيا عبر العصور، لا سيما الجزء الثاني الذي عقده لتاريخ الولاية، مرجحا الفرضية القائلة إن التسمية قديمة ومعتمدا المنحى اللغوي في اشتقاقها .
ثالثا: ظروف تأسيس المركز
تلاحقت الأحداث بعد مقتل كبولاني يوم 12 مايو 1905 في تجكجة، وبعد أن ضرب الحصار على هذه القلعة، فبادر الفرنسيون إلى اعتماد أسلوب الغزو المسلح، وسياسة الأرض المحروقة بدل الحيلة والمسالمة، وكان لا بد للقادة العسكريين قبل التوغل شمالا إلى آدرار أن يؤمنوا خطوط الإمداد العسكري من محطات النهر، وخطوط التموين القادم من انيور، لاسيما أن الاستخبارات الفرنسية أكدت أن أغلب القيادات القبلية في لعصابة قد اشتركت في معركة انيملان، ثم تفرقت في آفطوط وأفل وجبال لعصابة مما يقتضي مراقبتها، ورصد حركتها من مراكز قارة، والحد من نشاطها.
وفي هذه الظرفية الخاصة بدأت قصة تأسيس المركز، والتي لخصها الرائد ديفور في مذكراته التي سماها تاريخ العمليات العسكرية في موريتانيا، بقوله:
" بينما كانت النجدات تتجه إلى تجكجة كان الرائد آرنو يزحف بستين من الجمالة، وسرية من رماة الكتيبة السنغالية من انيور إلى كيفه وهي نقطة المياه الهامة الموجودة في أرقيبه على بعد ثمانية أيام إلى الجنوب الشرقي من تجكجة، وكان الهدف من هذه العملية بذل ما هو ممكن لمنع قبائل أرقيبه من الانضمام إلى الشريف، وقد وصل الرائد دون مصاعب إلى كيفه في الأيام الأولى من دجمبر"
إن قراءة متأنية لهذه الشهادة تجعلنا نحكم باطمئنان بأن الهاجس الأمني كان في مقدمة دواعي الـتأسيس، ثم إن النص لا يخلو من عبارات لها دلالة، لا سيما أنها تصدر من قائد عسكري يعي ما يقول، فالنجدة تعني أن الفرنسيين كانوا في حالة انكسار، وعبارة بذل ماهو ممكن ليست من مألوف القاموس العسكري الذي يميل إلى الحسم أكثر من التردد والواقعية، والشريف الذي يشير إليه القائد الفرنسي هو مولاي إدريس قائد معركة النيملان، والذي انعقد عليه لواء المقاومة في تلك المرحلة.
والواقع أن الموقع الذي حطت به الكتيبة بعد تلقيها تعليمات الإقامة لم يكن سوى البئر المالحة التي تضمنتها الشهادات التاريخية السالفة، مما دفع القائد أرنو إلى الانزياح شرقا إلى موقع كان يعرف بأحسي باب، في منحنى الوادي حيث مظنة الماء الشروب، والصلصال الصالح لعمليات البناء، والموقع الاستراتيجي بين التلال الرملية والمرتفعات الصخرية وكأن المركز يحتمي بالجغرافيا من بطش الظرفية التاريخية حين تأسس يوم 01 فبراير سنة 1907، أي بعد مرور شهرين على وصول الحامية الفرنسية إلى بئر كيفه المالحة، وتطبيقا للتعليمات التي تضمنتها البرقية المرقمة354 والمؤرخة في 26دجمبر 1906.
وقد تضمنت رسالة حاكم السودان الغربي إلى الحاكم العام لغرب إفريقيا المرقمة 406 والصادرة بتاريخ 12 يوليو 1907، تضمنت بعض الإشارات إلى دواعي التأسيس وقد عدد منها:
أن منطقة أرقيبه أصبحت ملاذا آمنا لتجمع القبائل المعادية بعد أحداث تكانت
انتشار السلاح في أوساط القبائل المتمردة في هذه المنطقة
الأهمية الإستراتيجية لارقيبه في أوقات السلم والحرب, وكونها استكمالا للخط البري الرابط بين مركز نواكشوط ومدينة تيمبكتو.
وأشارت الرسالة إلى أن مزايا الموقع الجديد تستوجب تعزيز الحامية العسكرية فيه بمزيد من المدد، والعناصر الفنية والإدارية في أسرع الآجال.
وإذا ما استنطقنا الذاكرة المحلية، بشأن مشهد التأسيس وجدنا بعض الإشارات التي لا تخلو من دلالة ومنها ما جادت به قريحة الأديب سيد محمود ولد باحمد، غداة تأسيس المركز مطلع سنة 1907حين قال:
على سقطار إذ وقفت غديـــــة علمت بأن الله ذا العرش قــــــادر
يساري ذو الأمطار والفرع خلفـه وذو مطر من بين ذينك ظاهــــــر
وباب على اليمنى يراه الذي رنـــا به الروم حول الخندريس تسامــــروا
فهذي بلاد الحي ملكا كان آمـــــنا له الفخر دون الورى والمفاخــــــر
فلما بدل الربع المحيـل بمقلــــة وجال افتكا ر والدموع تناثـــــــر
تذكرت قول الجر همي إلى الصفـــا أنيس ولم يسمر بمكة ســــامــــر
بلى نحن كنا أهلها وأبادنــــا صروف الليالي والدهــــــور دوائـر
ولسنا هنا بصدد الحكم على القيمة الأدبية للنص الذي يثير الشجون ويستحضر المغاني، والدمن الدوارس، ومرابع الأحبة، وذكريات الزمن الجميل، بل إن اهتمامنا يتمحض للقيمة التاريخية للنص، باعتباره شهادة يتيمة تتضمن إشارات ذات مدلول خاص، وحمولة رمزية لعل أهمها تحديد الموقع من خلال حصر المعالم المحيطة به من جنبات الوادي، وإشارته إلى الفرنسيين ووصفهم بالروم وكأنه يتفاءل بأنهم سيغلبون هذه المرة.
عندما وضع الرائد آرنو حجر الأساس لمركز كيفه في الموقع الجديد لم تكن الساكنة تتجاوز أسر بعض المجندين في الحامية، ثم مالبثوا أن انضم إليهم بعض التجار المنحدرين من أوساط مدينة انيور ، ممن كانوا يبيعون للحملة أقواتها، وقد اقتضت دواعي الاستقرار أن تسند رئاسة الكصر إلى السيد يوبا سيلا ليكون عنصر ارتباط بين الإدارة الفرنسية من جهة والقيادات القبلية المحلية من جهة أخرى ومن المهام المسندة إليه:
تمثيل القرية لدى الخوبه
جمع الضريبة الشخصية
عضوية مجلس الأعيان
تنظيم عملية لبرة تمهيدا لإقامة مدينة الحرية
ورغم أن دائرة التكليف الإداري لهذا الرجل كانت تضيق وتتسع تبعا لتطور المركز من جهة، ومستوى تعاطي المجتمع الأهلي مع النسق السياسي الجديد من جهة أخرى، إلا أن الذي لاخلاف فيه أن هذه الوظيفة قد انتقلت من بعده إلى ابنه التجاني سيلا وظلت باقية في عقبهم إلى سنوات الاستقلال وقيام الدولة الوطنية، ومن الأسر القديمة في المركز أسرة مودي كامارا، وأسرة اسرماقا كيتا، وأسرة آل افافانا ذات الوزن العلمي المحسوس.
ورغم العزلة التي عاناها المركز في سنوات التأسيس بفعل مقاطعة السكان المحليين، في مرحلة أولى، وتهيبهم في مراحل لاحقة إلا واقع الاحتلال، والضرورات الاقتصادية، وطبيعة الحراك الاجتماعي قد فرضت نوعا من التعايش، اتخذ في البداية شكل علاقات غير مباشرة تمثلت في ظاهرة المصاهرة بين بعض أفراد الإدارة الفرنسية وأعوانهم التراجم وبعض الإماء اللائي كن في خدمة شيوخ القبائل ولهن حظوة خاصة لدى هؤلاء الشيوخ مما ساهم في انفراج العلاقة بين المركز والأطراف.
وفي مرحلة لاحقة تعززت العلاقات الاجتماعية بين الساكنة الأولى للمركز بدخول التجار البيظان على خط المصاهرة حيث تزوج أغلبهم من بنات آماليز مما عزز اللحمة الاجتماعية في المركز، وساهم في تفعيل الحراك الاقتصادي، وتقويته وارتسمت ملامح عقد اجتماعي ثلاثي الرؤوس يجمع علية القوم من أساطين المؤسسة التقليدية التي تدير المجال، ومسيري الشأن المحلي في النسق الإداري الجديد، ورجال المال والتجارة الذين يسيرون الأقوات في مرحلة بدأ فيها المجتمع يرتبط بالسوق الرأسمالية بمغرياتها التي تحولت، مع الوقت،من كماليات لدى الخاصة إلى ضرورات لدى العامة.
لقد أدى الحراك الاقتصادي والتحول السكاني إلى نوع من الفرز الاجتماعي الجديد كان من أبرز مظاهره إضافة مكونة جديدة إلى مجتمع لعصابة هي مجموعة جامبور المركز و هم في أغلبهم من صميم التركيبة التقليدية و إن اختلفت تموضعاتهم الاجتماعية.
غير أنهم قد انسلخوا من العباءات القديمة مشكلين عنصرا فاعلا و شريكا للإدارة الفرنسية في تسير المركز دون آن ينبتوا من محيطهم التقليدي إلا في حدود ما يقتضيه التمدن، و يعنى هذا المفهوم المركب( جامبور) في القاموس الولفى (خدم الإدارة) غير أن دلالته الاصطلاحية لا تحمل أية نبرة قدحيه، فخدمة الإدارة في ذلك السياق تقرب صاحبها إلى مركز القرار، ربما أكثر من غيرها من المراتب الاجتماعية في البنية التقليدية للمجتمع.
ثم إن مصطلح جامبور قد تطور مع الزمن ليحيل إلا أهل الحضر من المقيمين ليميزهم عن أهل الوبر من الظاعنين، واتسمت هذه المكونة بقدر كبير من الانسجام يختزل الأطياف القبلية في هوية جديدة تمثل ثقافة واحدة، وتتصف بالتنوع الذي يكرس الوحدة وتعكس قدرا كبيرا من الوعي و القيم المدنية.
رابعا: أهم محطات التطور الإداري للمركز
يمكن أن نجمل أهم التطورات الإدارية في مركز كيفه في ثلاث مراحل رئيسة هي:
1) مرحلة الضباط العسكريين: و تمتد من سنة 1907 إلى سنة 1937 و قد تميزت بوضع الأسس الأولى للإدارة المحلية طبقا لمقتضيات السياسة الفرنسية, و كان الهاجس الأمني حاضرا في الأذهان في وقت كانت المنطقة ميدانا لصراع بين الفرنسيين والمقاومة، وكان القادة الفرنسيون يسعون لوضع اليد على المواقع الاستراتيجية، ومسالك التجارة القديمة، ونقاط المياه، ومجالات انتجاع القبائل.
و كان المركز يدار من طرف ضابط عسكري يمثل رأس السلطة في المنطقة يساعده بعض الأعوان من الكتبة و التراجم وكانوا في هذه المرحلة من دول الجوار الإفريقي، و يتولى رئيس القصر مهمة التنسيق بينه مع ساكنة المركز و الأطراف, في حين تتولى القيادات العشائرية تمرير القرارات الإدارية عبر الفضاء القبلي من خلال جمع الضرائب و العشور, و حفظ النظام و تحديد مجالات تحرك القبائل ومواسم تجمعها وتعرف في القاموس الإداري بمجلس الأعيان.
وقد عرف المركز تغيرات عديدة في مجاله الإداري وحدوده و عائد يته ، ففي سنة 1907 كان تابعا لدائرة ا نيور في السودان الغربي , ليصبح ابتداء من سنة 1913 ضمن الإقليم المدني الموريتاني بعد إنشاء دائرة في لعصابة وعاصمتها أمبود وهي وضعية ستتغير ابتداء من سنة 1923 باختيار كيفه عاصمة لدائرة تشمل آفطوط و أرقيبه واظهر لعصابة وأفله، و من أبرز رجال هذه المرحلة:
الرائد آرنوARNOLD مؤسس المركز و قائد الحامية العسكرية الأولى التي ضمت بعد التأسيس 120 من الجمالة و200 من المشاة.
النقيب دلا رميناDE LARMINAT 1924-1929 وقد عرف با لصرامة والشدة في إدارة المجال, و هو صاحب فكرة زراعة النخيل في المنطقة, حيث أرسل بعثة إلى تكانت جاءت بمائة فسيلة منتقاة, ثم أشفعها بقرار يلزم السكان بزراعة النخيل، و بجهود هذا الضابط تضاعف عدد النخيل في أحواز الرقيبة ولعصابة من 150 نخلة في منتصف العشرينات إلى أكثر من ( 70.000) نخلة سنة 1948 .
2) مرحلة الإداريين المدنيين وقد بدأت في 11 فبراير 1937مع الإداري المدني بول مونيى P MONIERو خلفائه أمثال جيليان المانJ ALLMAND) و ميلو MULOT وبالدن اسبرجيBADEN ESPERGER و جابرييل فيرالG FERAL و رنولد RENAULD 1952-1955.
و إذا كان من المفترض أن عهد المدنيين يؤشر مرحلة استقرار سياسي بعد توقف المقاومة العسكرية في الشمال، و خضوع البلاد بشكل شبه كامل للإدارة الفرنسية إلا أن هذه المرحلة لم تخل من مصاعب في الدائرة و هذا ما تعكسه التقارير السياسية منذ منتصف الثلاثينات، و التي تتحدث عن تنامي المد التيجاني بفرعيه الحافظى في إدوعلي والحموى في أهل سيد محمود و لقلال و استقطاب القادرية لمجموعات إديوبسات، و هو ما أدى في المحصلة النهائية إلى ظهور الشيخ محمد عبد الله ولد أده في زاويته الجديد ة ببومديد، إضافة إلى الطريقة القظفية الذائعة الصيت، و خلال منتصف الأربعينات وعلى وقع مصاب المريدين الحمويين فى شيخهم المتوفى في باريس والقادريين في الشيخ التراد المتوفى في دجمبر 1945 بد كار عائدا من الحج، صدر المقرر رقم 9555 بتاريخ 28 أكتوبر 1944 و بموجبه أصبحت كيفه تابعة لتامشكط بالحوض و فقدت استقلاليتها الإدارية, و كان ذلك نتيجة حتمية لظروف الحرب العالمية الثانية و ما تقتضيه من تقليص النفقات الإدارية, فضلا عن التأثير البالغ للزوايا الصوفية و نزعتها المقاومة للاستعمار الفرنسي والتي تختزل عادة في الثقافة المحلية, في بعض الصراعات البينية التي هي عرض لا جوهر، وإذا كان الحكام الفرنسيون من عسكريين و مدنيين قد تركوا بصماتهم ظاهرة في التاريخ الإداري لكيفه بمستويات متفاوتة فإن الإداريين الموريتانيين كان لهم نصيب كبير في هذا المجهود و لعل السيد محمد ولد الشيخ كان مثالا في هذا الصدد فقد تمكن من كسر احتكار التجار الأوائل حينما أدرك أن حافة الوادي لا تتحمل مزيدا من الساكنة فنقل المركز التجاري إلى الجديدة بدل السوق القديمة، و قسم المزارع على ساكنة المركز وقاد حملة تعبئة في القبائل حثها على ضرورة الإقامة في المدينة ملوحا بسلاح العقوبة أحيانا، وإغراء المكافأة أحيانا أخرى، وهو ما مهد لتطور عمراني و توسع أفقي سيعرض له المتخصصون بشيء من التفصيل.
خامسا:أمثلة من الأدوار العسكرية و الثقافية والسياسية للمركز
كانت النازلة الاستعمارية حدثا جللا تردد صداه في ربوع أرقييه وما يليها من تكانت، فانبرى علية القوم في مقدمة جيش المقاومة شاهرين السلاح في وجه الغزو الفرنسي ابتداء من سنة1904، في إطار ما عرف بالحرب الإستباقية التي قادها الأمير المجاهد بكار ولد اسويد أحمد بدعم وإسناد من كبار علماء المنطقة، ومباركة من الشيخ ماء العينين في الشمال.
انطلق بكار من منطقة باركيول مطلع فبراير سنة 1904 في اتجاه مركز مال في حدود البراكنة حيث يتمركز الفرنسيون ودخل معهم في حرب عصابات اعتمد فيها أسلوب الكر والفر، وسرعة المباغتة والانسحاب، وكان يهاجم الوحدات الفرنسية ليلا ثم يختفي نهارا، وعندما تلاحقه دوريات الفرنسيين يواجهها بأسلوب الكمائن.
وفي هذه المرحلة قاد الأمير، يؤازره ابنه عثمان بن بكار العديد من المعارك ضد الفرنسيين أهمها: معركة ميت في 17 فبراير 1904، ومعركة كوصاص شتاء 1904، وخلال هذه المعارك كانت المقاومة تتكبد خسائر مادية وبشرية كبيرة، وتسجل في المقابل انتصارات ملموسة، وتعرقل الزحف الفرنسي، وذلك بتحصين الممرات المؤدية إلى تكانت وارقيبه، والتحكم في نقاط المياه بالمنطقة.
وفي مواجهة الخطر المتزايد للمقاومة، عهد كبولاني إلى القائد Lestere de Rey بقيادة حملة عسكرية هدفها كسر شوكة المقاومة، واختراق دفاعاتها، واشتبكت هذه الحملة مع معسكر المقاومة الوطنية بقيادة الأمير عثمان نجل الأمير بكار، وقائده العسكري في العديد من المعارك، أهمها معركة دركل في 25 فبراير 1905، ففي صبيحة هذا اليوم طوّق المجاهدون وحدات الجيش الفرنسي في آفطوط، وتمكنوا من إلحاق خسائر كبيرة بهم طالت أرواحهم وممتلكاتهم، وتقدر المصادر أن المجاهدين تمكنوا من قتل ثلاثة عشر جنديا فرنسيا، وأن قائد الحملة د ري قد أصيب في المعركة بجروح بليغة في رجله شلت فاعليته القتالية، كما غنم الوطنيون مغانم كثيرة شملت البنادق والذخيرة، والجمال.
وكان طبيعيا أن تدفع المقاومة الوطنية ثمنا لهذا الانتصار، فقد استشهد العديد من رجالها، وخسرت الكثير من مواشيها، ومع هذا لم تمض إلا ثلاثة أيام على معركة دركل حتى هاجم المجاهدون من جديد فرق التموين المكلفة بإعادة تنظيم وتأهيل الحملة، مما أقلق الفرنسيين، وأربك خططهم التوسعية.
أدرك كبولاني أن عهد توسعه "السلمي" قد ولى، وأن المقاومة، وطبيعة المنطقة المتسمة بوجود العديد من الأودية والجبال، والغابات كلها عوامل في غير صالحه، فجرد حملة عسكرية قوامها120رجلا، بقيادة خبير الدروب فريرجانهFrère Jean، انطلقت من المجرية يوم 27 مارس 1905، وتعقبت مخيم الأمير إلى أن باغتتها على مشارف أضاة المنصور في موقع يسمى بوكادوم إلى الجنوب الشرقي من كيفه الحالية،وتمكنت الحملة، بعد هجوم مفاجئ، من تطويق مخيم الأمير وطلبت استسلامه، غير أن بكار رفض ذلك، على الرغم من صعوبة موقفه، وظل يقاوم إلى أن سقط شهيدا صبيحة الأول من إبريل سنة 1905، وكان يومها قد جاوز التسعين.
مثل استشهاد الأمير بكار منعطفا حاسما في تاريخ التوسع الفرنسي وكان بمثابة أكبر صدمة للمجاهدين خسروا فيها أهم عنصر قيادة وتوحيد وكان من أهم النتائج التي أسفر عنها استشهاده تفرق قوة إمارة إدوعيش التي عرفت عهد نفوذها وقوتها تحت قيادته، كما صودر الكثير من ممتلكاتها، حيث تفيد المصادر أن الحملة على أرقيبه قد حصلت على أعداد كبيرة من المواشي وكميات هامة من الحبوب، وأدت وفاة الأمير كذلك إلى تراجع بعض القبائل الموالية له، وإعلانها الخضوع للفرنسيين، بل إن الوثائق الفرنسية في تلك المرحلة تذكر وفادة أحد أبناء الأمير بكار، وهو الأمير الحسين إلى كبولاني، في وفد من أبناء عمومته لطلب الأمان.
ورغم ذلك فإن جذوة المقاومة في أرقيبه لم تخمد، فقد قاد الأمير المختار ولد عثمان وفد العشائر الذي قصد البلاط المغربي لطلب السلاح، واشتركت أغلب قبائل أرقيبه في حصار تجكجة، ومعركة النيملان سنة 1906، وتحتفظ الذاكرة الشعبية بأيام مشهودة في البيظ وأجار لعصابه وانواملين وتنشيبه لسيدي ولد الغوث، وسيدي ولد العربي، وسيد ولد بناهي، ومحمد الاقظف ولد الجوده وغيرهم، مما ساهم في جعل أرقيبه وأفله من آخر المعاقل التي نودي فيها بقصر الصلاة في زوايا الحمويين، ونفذت فيها أحكام الموت بحق المجاهدين.
وحين وضعت الحرب أوزارها، أو كادت، ولم يعد السيف أصدق أنباء من الكتب، عرفت المنطقة، أشكالا من المقاومة جسدتها الهجرات الجماعية التي يممت الديار المقدسة، ورسمت في الذاكرة العربية صورة مشرقة للشنقيطي من خلال زاد المسلم لابن مايابا، وأضواء البيان للشيخ آبه وغيرهم حتى أقر الفرنسيون على لسان المفتش بيري أنه لا يوجد مجتمع بدوي يبلغ مبلغ الشناقطة في العلم بالعقيدة والأدب والفقه والتاريخ وإنهم ليتحدثون العربية الفصحى أحسن مما يتحدث بها سكان تونس والقاهرة ولا تكاد تجد بينهم راعيا من أبسط الرعاة إلا ويترنم بالشعر الجاهلي..
و حين يتعلق الأمر بالتقاليد السياسية, فلهذه المنطقة في ذلك المشغل قدم راسخة منذ أيام المرابطين تعززت لاحقا بتجارب الأنظمة الأميرية في بلا طات إدوعيش و أولاد أمبارك، و في نموذج الحركات الإصلاحية التي تمثلها تجربة عبد الله ولد سيد محمود الحاجى في إقامة نظام سياسي يجمع الشتات القبلى, و يقيم الشريعة، ويصون الحرمات .
ولقد كان من نتائج هذا الإرث السياسي الغنى أن تميزت الممارسة السياسية في كيفه و أحوازها بقدر عال من الوسطية و الالتزام من جهة , ومن الفاعلية و الحضور الإيجابي من جهة أخرى, فقد بلغ عدد الناخبين في مركز كيفه سنة 1946 (212) وبلغ عدد المقترعين 187 صوت، منهم 101 لصالح أحمد ولد حرمه مقابل 85 لرازك، ولم تسجل حالة حياد واحدة، و كانت هناك بطاقة لاغية واحدة.
و كان مركز كيفه حاضرا فى رسم مستقبل الدولة قبيل الاستلال حين احتضن مؤتمر حزب الاتحاد التقدمي سنة 1955، وهو المؤتمر الذي أقر إعادة ترشيح سيد المختار انجاي لتمثيل موريتانيا في البرلمان الفرنسي، واستند المؤتمرون في ذلك إلى كون الرجل يمثل مكونتي المجتمع الموريتاني من أب وولفي، وأم سباعية، فضلا عن كفاءته الشخصية، ولاشك أن تاريخ أبيه في الدائرة قد شفع له عند علية القوم.
وفي عهد الدولة الوطنية، ساهمت كيفه بخيرة أبنائها في المواقع القيادية في السلم الوظيفي، منهم عشرات الوزراء والسفراء وكبار الموظفين، أذكر منهم مثالا لا حصرا العقيد المصطفى ولد محمد السالك رئيس اللجنة العسكرية للإنقاذ الوطني، الذي قاد تغييرا هادئا لم ترق فيه قطرة دم وساهم في إخراج البلاد من حرب الصحراء. والعقيد الشهيد أحمد ولد بوسيف الذي كان مثالا في النبل والشهامة والبطولة، وقاد الدولة في أحلك لحظات تاريخها السياسي، تغمده الله بر حماته، فذانك مثالان يستحقان التنويه.
وعلى مستوى المقدرات السياحية فإن المنطقة حبلى بالمواقع التاريخية والتراثية والدينية من آثار الحضارات القديمة والوسيطة ، والمدن الأثرية،ومسارات القوافل، والمزارات والأضرحة، وأحواش المحاظر العتيدة، وزوايا التصوف ودور التربية الروحية، وميادين معارك المقاومة، والمكتبات الأهلية، والمخطوطات النفيسة، والجبال الراسيات، وباسقات النخل، وصنوف الأنعام والحرث، والكفاءات العلمية في شتى صنوف المعرفة، مما يؤهلها لأن تكون قطبا تنمويا بامتياز.
وخلاصة القول إننا ما سعينا من خلال هذا العرض المتواضع، إلى إحياء درس المناقب الجهوية، ولا إلى اختزال وطن في مدينة، وإنما لتكون سنة حسنة يحذو حذوها الآخرون لينفض الغبار عن مكنون تاريخ البلاد، ويكشف النقاب عن قدرات ومواطن تميز هذا الإقليم، وما يزخر به من إمكانيات بشرية ومادية، هي بالضرورة في خدمة الوطن، والمصالح العليا للأمة.