بعد صلاة الظهر من يوم السبت الموالي لحادث إحراق الكتب في مقاطعة الرياض، وقف إمام المسجد المجاور لبيتي و طلب من المصلين الانتظار لأن حاكم المقاطعة (عرفات) " سوف يرسل سيارات لنقل الناس إلى مسجد ابن عباس حيث ستنطلق مسيرة في اتجاه القصر الرئاسي منددة بالمحرقة و داعية الرئيس إلى معاقبة الجناة ..". لم ينتظر الكثير من الناس .. بل عادت السيارات خالية إلا من الصبية الصغار و أقارب الإمام و من يدور في فلكه ...
نعم هكذا تم تنظيم المسيرة التي قيل عنها إنها عفوية... في حين أنفقت فيها الدولة الكثير من المال من أجل جمع الناس و نقلهم إلى قلب العاصمة لاستخدامهم في مسرحية لم تظهر بعد خلفياتها و لم يستشعر أحد ـ من المخططين لها ـ النتائج التي يمكن أن تفضي إليها . لقد استخدمت الدولة أئمتها و مساجدها و فقهائها و تلفزيونها و إذاعتها و مخابراتها...و قد رفض بعض الأئمة ـ الذين رفضوا الرواتب التي تقدم الدولة مقابل مثل هذه الخدمات ـ هذا الاستغلال الخطير لبيوت الله .
لم تكن إذن المسيرات عفوية و لم تكن لوجه الله بل كانت مفبركة و مبرمجة على أعلى مستوى لحاجة في نفس محمد ولد عبد العزيز الذي كان يتفرج على عرشه يتهاوى.. إلى حين قُدمت له هذه الهدية على طبق من ذهب، فانقض عليها و استغلها اكبر استغلال مكنه من لفت انتباه الناس عن ما يعانون من بؤس و شقاء و فقر .. و عجز الحكومة التام عن حل أبسط مشكل لهذا الشعب المغفل .
فمنذ الأسبوع الماضي لم نعد نعاني من الجفاف و لا البطالة ولا الانسداد السياسي و لا الهواجس الأمنية على الحدود و في الداخل .. لقد حلت كل هذه المشاكل يوم أحرقت الكتب ! أصبح مشكل الوطن والمواطنين هو حادثة حرق الكتب الفقهية ..
لقد خرج الرئيس على الجماهير و التزم لهم بتطبيق الشريعة .. فلماذا لم يطبقها على ابنه بدر ، و لماذا لم يخرج على مجموعة " كواس حامل شهادة " قبل أن يرسل عليهم كلابه .. الذين أخرجوهم بعنف و عجرفة لم يسبق لها مثيل ؟ لماذا لم يقبل أن تتوجه مسيرات المعارضة إلى القصر و يخرج عليها و يلتزم لها بتطبيق الشريعة في المنافقين و المصفقين من الوزراء الذين عجزوا عن تسيير الجامعة و المؤسسات الثانوية التي لم يقدم فيها ثلث البرنامج طيلة السنة ؟ نعم خرج للمسيرة المفبركة ذات الثلثي مخابر من الشرطة و الائمة و بائعات الهوى و الندامى . خرج عليهم و التزم لهم بالقيام بما يرضيهم ..و هو معاقبة بيرام ! لا غيرة على الإسلام و لا للكتب المحروقة و إنما انتقاما لولد النيني الذي رفض بيرام الصلاة خلفه في السفارة الامريكية .. و انتقاما لأهل حاسين الذين انتزع منهم سعيد و أرسل إلى المدرسة و بقيت الإبل دون راع و انتزع منهم يرك و زج بإبنهم الاكبر في السجن لمدة أشهر عديدة، معاقبة له على ممارسة الرق الذي أنكر الرئيس بالصوت و الصورة وجودها في موريتانيا ..و امباركة بنت أساتيم تستمع إليه في مطبخ أسيادها .. و انتقاما لشياخ ولد اعلي و ووجهاء و نواب قبيلته و أهل خنفورو .. اللائحة طويلة . هذه هي المحرقة التي تحركت لها الدولة بكل عنصرية و فئوية و استعلاء .. ردد فقهاء الدولة عبارات نابية تنفي العلم عن لحراطين و تذكر بمكانتهم الإجتماعية ..هذا هو شغل الإذاعة الوطنية على مدى الاسبوع الماضي حتى أصبحت رائحة العنصرية تشتم في الشوارع و في الصالونات المكيفة و في المكاتب !! كل ذلك لان عدو البيظان (الإستعباديين ) قد أوقع به و هو يستخدم كطوق نجاة لحكم الجنرالات !
لم يكن ينبغي حرق الكتب ... على الرغم من أن تلك الكتب حرقت بني آدم الذين كرمهم الله.. لكن لم يكن من الوارد حرقها بالنار بل كان يجب حرقها بالحجج.. الحجة بالحجة حتى يتبين للجميع ما فيها من خلط و دس و تزوير و سيكون في ذلك حرق لما يجب حرقه من آراء و تفسيرات خاطئة.. و ستبقى الآيات القرآنية و الأحاديث الصحاح التي استخدمت هناك لتبرير حجة أو تدعيم أخرى ... ما كان ينبغي حرق الكتب و لو رمزيا.. بل كان يجب تطهيرها من الشبهات و الاستنباطات .. حتى ننتفع بما فيها نافع و نبين ما بها من تهافت ..
و لكن أيضا ـ في المقابل ـ كان يجب أن تنظم هذه المسيرات عندما أخرجت إذاعة القرءان محاضرة لعالم سعودي يدعو فيها أثرياء السعودية إلى شراء العبيد من موريتانيا ... لم تخرج مظاهرات لأن الكتب المحروقة تجيز بيع عضو من رقيق ..
كان يجب أن تخرج المسيرات عندما قال صحفي في قناة الرسالة بأن أحد الموريتانيين أهدى لرئيس تحريره أمة من موريتانيا .. فكان يجب التحرك من أجل استعادة تلك المواطنة و معاقبة من أحرقها و قطع الرحم و فرق بين المرء و زوجه متذرعا بتفسير الدسوقي و الحطاب ..
كان يجب أن تخرج المسيرات عندما اعترف رأس السلطة في انواذيب بأنه فاسق ..حيث تثبت هذه الكتب المحروقة إن حلق اللحية فسق ؟! و عندما سخر من الشعراء و تهكم على الشيوخ الضعفاء ..
ما كان يجب قبول استبدال الرئيس سيد ولد الشيخ عبد الله باي كان لأنه أول رئيس يصلي الجمعة في المسجد الجامع ..و من أكبر ما يعاب عليه أنه رفض الكذب على المواطنين كما تفعل الحكومة الآن .. إذاكان تحركنا من أجل الدين فكان يجب أن ننصر من نصر الدين واتصف بالإيمان.. " إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان " فهل فعلا تحركنا غيرة للدين..؟
و قبل الآن لم تخرج المسيرات عندما قال إسلمو ولد سيد المصطف إنه سيحول المساجد ـ وفيها كتاب الله ـ إلى مخابز.. و لا عندما قدم المصحف من طرف أحمدو ولد ميح على أنه هدية "متواضعة" للرئيس معاوية ، صاحب سنن النفاق و الإرتزاق. و لا عندما زهقت أرواح الزنوج في شهر رمضان المعظم !
ولم تخرج المسيرات عندما وطئت أقدام الصهاينة أرض " المنارة و الرباط " .. و بقوا فيها حتى انقلب محمد ولد عبد العزيز على الرئيس المنتخب ـ فجعل من طردهم ورقة رابحة يدفعها للموريتانيين مقابل السير خلفه في غدره واستهتاره بمن قدمه في الرتبة و مكن له في القصر ..
إن الهجوم الشرس و الحملات المغرضة التي يتعرض لها بيرام اليوم ليست ابدا غيرة على الدين و لا نصرة للحق .. إنه حق اريد به باطل .. لقد سلك بيرام أسلوبا في النضال أغضب الجميع : ملاك العبيد و الإقطاعيين و البرجوازيين أي أزلام النظام ، و هاهو هذا الجميع يجد فرصته للإنتقام و لأن الفخ الذي وقع فيه بيرام ـ أو أوقع فيه على الاصح ـ حساس جدا فكل البلهاء و الخبثاء و سليمي الصدر أمكن توظيفهم في هذه المسالة و الرابح الوحيد فيها ـ في الوقت الحالي على الاقل ـ هو النظام الحاكم . فلن يسألهم التحقيق عن حرق الكتب بل عن علاقاتهم مع الخارج و عن التمويلات وعن قافلة إينال ...
ولكن نظرة خاطفة إلى تاريخ هذه الانظمة الضعيفة يعيد إلى الاذهان تلك المحن التي مر بها مواطنون من أبناء هذا البلد بتهم حسبت آن ذاك بالخطيرة و انتهجت لها نفس الطرق و استخدمت نفس الحملات المغرضة و الدعايات الخطيرة .. كانت السلطة ترفع السقف إلى أعلى درج لكي تبرر قوة الضربة التي تريد أن توجهها لهؤلاء .. فغدا ـ حسب تصور المنظرين للعار ـ إذا أغتيل بيرام فسيكون ذلك استجابة متواضعة لهذه الهبة الجماهيرية التي أقامت الارض ولم تقعدها مطالبة الرئيس ، كما سمعنا على أثير إذاعة النباح و تلفزيون الخيانة و الفبركة.. سيكون ذلك لفتة كريمة من رئيس الفقراء و خادم الدين و المدافع عن المالكية .. لقد خطط النظام لتبرير ما سيفعل ببيرام و يكون بذلك قد ضرب عصفورين بحجر واجد :
يتخلص من معارض لا يلين و ينتقم لمنت بكار فال و اهل حاسين و أهل الفيجح و أهل خنفور و أهل البوه.. من عدو لدود انتزع منهم عبيدهم .. مصدر مجدهم الوحيد !
فإذا كان بيرام و زملاؤه قد أجرموا ؟ فيجب تقديمهم للعدالة و تركها تتخذ مسارها بكل حرية و نزاهة . و لا أدري كيف ستكون العدالة مستقلة ، بعد تعهدات الرئيس و توصيات مجلس الوزراء. و يجب أن تتوقف الحملات الدعائية و الشتم و السب فإنه بدأ يعطي للمسألة طابعا خاصا لا يخدم اللحمة الإجتماعية التي نحرص عليها كلنا .. فإذا كان ثمة أناس ساديين يتلذذون بالانتقام من بيرام ؟ و آخرون ينتهزون الفرصة للفت الانتباه إليهم لينعموا بتعيين أو دراهم ؟ فإن هنالك الكثير من الموريتانيين الذين يدينون الفعلة هذه.. و تتقطع أكبادهم مما يسمعون في الإذاعة الوطنية و على شاشة التلفزيون الموريتانية و في المكاتب و الدكاكين..!
لقد سئمنا و تقيأنا و مللنا هذه الخطابات و الخطب و الفتاوى و العتب و التقارير الصحفية من الولايات ولم تعطى الفرصة ولو مرة واحدة للمتهمين لتبرير تصرفهم أو التوبة .. يبدو أن الهدف واحد و هو أن يزداد الطين بلة .. لكننا لن ننجرف... بل سنصبر و نحتسب .. كما صبر آل ياسر !